تستمر منطقة الشرق الأوسط أن تعيش في عدم الاستقرار شبه الدائم الذي يؤدي إلى انهيار الطموح فائزي الأمس ويساهم في نمو النفوذ لمن يستطيع انتهاز فرصهم وامكانياتهم مع قليل من الحظ.
شاهدنا خلال السنوات الأخيرة ثورات وانقلابات و تمردات وحروب أهلية وتدخلات أجتبية بدرجات متفاوتة من النجاح. وعلى رغم من تغييرات مستمرة في توازن القوى كان هناك الطرف الوحيد الذي تمكن من حفاظ على موقعه في المنطقة. بل تعزيزه وهو الطرف الروسي الذي يتمتع بارتفاع النفوذ بالمقارنة مع خصومه المحلية والعالمية.
بطبيعة الحل ما بدأت روسيا بناء سياستها في الشرق الأوسط من الصفر. اعتدمت الحكومة الروسية على تراث العهد السوفياتي والعلاقات الصديقة مع الدول العرب، خاصةً في مجال التعاون العسكري. مع ذلك، تتابع روسيا اليوم استراتيجيةً حديثةً أصبحت أكثر تطوراً. وهي تضم الوسائل السياسية والعسكرية والقوة الناعمة في إطار مفهوم العمليات المختلطة الذي قام روسيا باستعارته من الغرب. بالإضافة إلى ذلك، تتميز السياسة الروسية بالصفة المهمة غير المتاحة لدى القوى العالمية الأخرى وهي التناسق.
المثال الأفضل لتنفيذ هذه المبادئ هو التدخل الروسي في الصراع السوري الذي يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل أساسية. في المرحلة الأولى شنت روسيا العملية العسكرية بهدف إنقاذ حكومة بشار الأسد وممراسة الضغط على فصائل المعارضة ومكافحة داعش.
كانت من صفات العملية الروسية اعتماد على الطيران الحربي واستخدام الأسلحة الدقيقة واختبار الأسلحة والتكتيكات العسكرية الجديدة. عما المرحلة الثانية فهي ركزت على تطوير نجاح تم احرازه في الميدان بالوسائل الدبلوماسية وعلى المقام الأول عملية أستنا السياسية. جمعت هذه المبادرة كل من روسيا وتركيا وإيران حول طاولة المفاوضات بشكل مبتكر وأصبحت بديلاً فعالاً لعملية جينيف تحت رعاية الأمم المتحدة التي وصلت إلى مازق.
استفادت روسيا بالتزامن مع ذلك من العلاقات الثنائية مع تركيا لترأس تسوية الوضع في محافظة إدلب كما لعبت دور الوسيط بين إيران وإسرائيل في الجنوب السوري.
في ليبيا تجنبت روسيا انطلاق عملية عسكرية واسعة النطاق ولكن التزمت بنفس المبادئ في سياستها. مع قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر وتستقبل السلطات الروسية ممثلي طرفي الصراع بشكل نتيجةً للجهود البارزة لوزارة الدفاع الروسية التي قد أسفرت عن جذب مصر والإمارات العربية المتحدة إلى جانب حفتر.
في كل من سوريا وليبيا واجهت روسيا معارضةً من قبل تركيا. على رغم من وجود فترات تصعيد العلاقات الروسية التركية. من بينها إسقاط الطائرة الروسية بالمسلحين المواليين لأنقرة. تمكنت الدولتان من الحفاظ على مستوى التعاون وقنوات التواصل.
أصبح شراء تركيا لمنظومات الدفاع الجوي أس-400 الروسية رغم الضغط الأمريكي. واختيار السلطات التركية موسكو كشريكها في بناء محطة أكويو النووية. من أبرز نجاحات في العلاقات بين البلدين. حتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتجنب الانتقاد الصريح لزميله الروسي فلاديمير بوتين، وبالعكس يهاجم الرئيس الأمريكي جو بايدن ويشتكي من «العلاقات غير الجيدة» مع واشنطن.
بالإضافة إلى التدخل الناشط على هذه الاتجاهات تسعى روسيا للبقاء على اتصال مع دول الخليج العربي وليس فقط في إطار منظمة أوبك بل في مجال التعاون العسكري، على سبيل المثال بدعوتها للمشاركة في «الألعاب العسكرية».
تسمح شبكة علاقاتها واتصالاتها الواسعة لروسيا باستفادة من الصرعات والتناقضات والتضاربات الموجودة بين كل من المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر وحتى تركيا.
بفضل لاستخدامها الوسائل السياسية والعسكرية بشكل منسجم نجحت روسيا في تعزيز تأثيرها في منطقة الشرق الأوسط. أدات مهارة الحكومة الروسيا في اختيار الموقع الصحيح إلى أن تنفذ موسكو أهدافها عبر أخطاء خصومها كما حصل في أفغانستان. بعد الانسحاب السريع للولايات المتحدة وإنشاء الفراغ السياسي حصلت موسكو على إمكانية إعلان جاهزيتها على المشاركة في تسوية الوضع فضلا لعلاقاتها مع حركة طالبات التي تم إقامتها مسابقا بالإضافة إلى صلاتها المتينة مع الصين وقطر.
هذا واكتسبت روسيا على الامكانيات الواسعة بتقديم مصالحها في المنطقة. بفضل تماسك واتساق السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط والدور الرائد للجيش الروسي فيها. تمكنت روسيا من تعزيز موقعها بالمقارنة مع منافسيها الأساسيين وهذا هو الدليل الأقوى لفعالية الاستراتيجية الروسية.