انبنى الفكر السياسي المعاصر على مفهومين مترابطين هما الدولة والديمقراطية، وظلّ تلازم هذين المفهومين علامة فارقة في ترسخ الديمقراطية في هذا المجتمع أو ذاك، كما أنّ انفصالهما كان يعني انتفاء مفهوم الدولة في شكلها العصري والحداثي.
غير أنّ نسق التغيير الذي تعيشه المجتمعات قد فرض تحولات كثيرة على المفهومين.
إن الحديث عن الديمقراطية ارتبط بالحديث عن مؤسسات يتمّ فيها تكوين الأفراد وتدريبهم على الممارسة الديمقراطية، ومن بين هذه المؤسسات الجمعيات والأحزاب السياسية التي ظلت على مدى عقود من الزمن تنتج الخبرات والكفاءات السياسية التي تولت إدارة شؤون الدول المعاصرة. ولكن مدرسة الأحزاب بدأت تفقد بريقها منذ فترة معلنة نهاية حقبة، وفك الارتباط بين الممارسة الديمقراطية والأحزاب السياسية.
في تسعينات القرن الماضي وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي ظهر مفهوم «موت الإيديولوجيا». وكان المقصود به موت الإيديولوجيا المنهزمة في ذلك الوقت وهي الاشتراكية، ثم تم سحب المفهوم على الإيديولوجيات الدينية. وكان من الطبيعي أن تموت أحزاب يسارية كثيرة منذ تسعينات القرن الماضي، أساساً «الأحزاب الشيوعية»، لتظهر مكانها أحزاب يسارية معتدلة حاولت البقاء في الساحة السياسية، وانتهجت مسالك جديدة واستبطنت مبادئ جديدة أهمها الديمقراطية الاجتماعية. كما اندثرت الأحزاب القومية، وفقدت كل فاعلية لها، بعد أن عجزت عن التصدي لتسونامي العولمة.
وبعد نحو ثلاثة عقود نرى أن «الإيديولوجيا المنتصرة» في تسعينات القرن الماضي أي الأحزاب الليبرالية. بدأت هي الأخرى تجهّز نعشها، بعد فشلها في تحقيق الرفاه والرخاء للشعوب التي آمنت بها. وبدأت هذه الأحزاب تتراجع عن ليبراليتها «المتوحشة». لتلتقي مع أحزاب اشتراكية في مفهوم الديمقراطية الاجتماعية. وانتفت أسباب التنافس بين اليمين واليسار بما أنّ الجميع يوقنون أنّ الديمقراطية لم تعد مرتبطة بالأحزاب السياسية. وبالأفكار الإيديولوجية بل ترتبط أساساً بقدرة الدولة على ضمان العدالة الاجتماعية والاقتصادية بين مواطنيها.
ومثلما تراجع دور المدرسة كفضاء احتكر التعلّم، وتراجع الإعلام التقليدي كأداة للإعلام. يتراجع دور الأحزاب كفضاء يحتكر تكوين النخب والقيادات السياسية، وكفضاء للممارسة الديمقراطية. فمع الزحف المستمرّ للتكنولوجيات الحديثة ولمصادر التعلم والمعلومة، تفقد الأحزاب السياسية كلّ دعائمها التي ظلت لعقود طويلة تجعلها عموداً وركيزة للممارسة الديمقراطية. ولهذا لاحظنا أن قيادات جديدة تبرز، دون أن تكون لها قاعدة حزبية بالمفهوم الكلاسيكي للحزب. بمعنى أنها تكونت ضمن أطر حزبية واستطاعت التطور داخل فضاء الحزب لتصل إلى قيادته ومن ثم الوصول إلى قيادة الدولة.
في الانتخابات التونسية جاء الرئيس قيس سعيد من خارج منظومة الأحزاب، واستطاع أن يحشد أنصاراً فاق عددهم أنصار الأحزاب التونسية التي شاركت في الانتخابات الأخيرة مجتمعة. وقبله خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن المنظومة الحزبية الفرنسية التقليدية ذات ثنائية اليسار واليمين وأسس حزباً صغيراً في ظرف سنة واحدة مكنه من الوصول إلى قصر الإليزيه، ما يعني أن ماكرون لم يصل إلى الحكم بفضل حزبه «حركة إلى الأمام» بل بقدرات شبابية استطاعت أن توظف الفضاءات السياسية والقدرات التكنولوجية لتصنع رئيساً من خارج المنظومة السياسية الكلاسيكية الفرنسية.
وفي الجزائر نجح الرئيس تبون في الوصول إلى سدة الرئاسة وهو بعيد نوعاً ما عن الأحزاب التقليدية خاصة جبهة التحرير، التي سعت إلى أن يكون هو مرشحها، بمعنى أنّ الحزب بات هو الذي يلهث وراء مرشح يدعمه، بل أن يكون هو الذي يقدّمه. وهذا ما حدث في الانتخابات الأمريكية التي صعّدت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فالجميع يعرفون أن ترامب كان متمرداً على كل المنظومة الكلاسيكية بما في ذلك الحزب الجمهوري الذي رشحه.
إنّ هذه المرحلة يمكن تمييزها بأنها بداية فك الارتباط بين الممارسة الديمقراطية والأحزاب السياسية في أشكالها التقليدية. أما الديمقراطية فيبدو أنها تجاوزت إطار الأحزاب دون أن تنفصل عن الدولة.