كثيرون يستنكرون ويدينون الصمت العربي على الإجرام الصهيوني ضد المسجد الأقصى وضد الشعب الفلسطيني، وأغلب هؤلاء لا يسألون عن الأسباب الحقيقية لهذا الصمت والخذلان العربي والإسلامي تجاه أهم قضية تربط العرب ببعضهم بعضا وتربطهم بأشقائهم في الدول الإسلامية: فلسطين والمسجد الأقصى.
معظم هؤلاء ربما لا يعلمون الكثير عن عملية التفكيك الممنهج التي أجريت للوعي العربي والعقل العربي من مؤسسات فكر وصحافة وإعلام عربية وأجنبية رسمية وغير رسمية منذ انخراط الدول العربية في مسيرة ما سميت ب «عملية السلام» ابتداءً من مقررات مؤتمر فاس عام 1982 وحتى الآن.
وهي المقررات التي فرضت تعميم أكذوبة السلام مع الكيان الصهيوني على كل الرأي العام العربي كما أرستها اتفاقية كامب ديفيد التي أسست لاتفاقية السلام المصرية «الإسرائيلية» عام 1979.
قبل هذه الاتفاقية كان العقل العربي مدركاً لحقيقة الصراع مع الكيان الصهيوني باعتباره صراعاً حول الوجود أي وجود الشعب الفلسطيني وحقه في دولته على أرضه التي انتزعت منه غدراً عام 1948 وبعدها في عام 1967 أو وجود وبقاء الكيان الصهيوني، وباعتباره صراع وجود بين مشروع قومي عربي يستهدف تحقيق وحدة العرب واستنهاض دورهم الحضاري و مشروع «إسرائيلي» استعماري غربي هدفه تحقيق الانتصار النهائي للدولة اليهودية في فلسطين وفرض هذه الدولة زعيمة وقائدة لإقليم الشرق الأوسط على رفاة الوطن العربي والوحدة العربية.
لكن اتفاقية السلام المصرية «الإسرائيلية» استهدفت تفريغ هذا الوعي وتصفيته نهائياً بالزعم أن جوهر القضية بين العرب والكيان الصهيوني هو مجرد «حاجز نفسي» يحول دون تقاربهم وتعايشهم، هذا الحاجز النفسي استحوذ تماماً على وعي وإدراك الرئيس المصري الأسبق أنور السادات وجرى تعميمه بعد ذلك عربياً، لكنه اكتسب أهمية كبيرة في السنوات الأخيرة التي أعقبت جريمة الاحتلال العراقي للكويت في2 أغسطس/ آب 1990، حيث انخرط العرب، من خلال مؤتمر سلام مدريد (أكتوبر/ تشرين الأول 1991) في عملية تطبيع غير رسمية وغير معلنة فرضها الدور الأمريكي في تحرير الكويت.
منذ ذلك التاريخ كان لابد من إيجاد حل لمعضلة اضطرار الحكومات العربية لتمتين العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تعهدت بحماية أمن هذه الدول ودفع ثمن هذه العلاقة بحزمة من السياسات كان من بينها العمل على تخفيف حدة العداء الشعبي للكيان الصهيوني وتخفيف حدة الحماس الشعبي للقضية الفلسطينية.
من هنا كانت بداية تنفيذ العملية الممنهجة للوعي والعقل العربيين لتخفيف وطأة الضغوط الشعبية على الحكومات بسبب الصداقة المفرطة التي تربط هذه الحكومات بالولايات المتحدة في الوقت الذي تمعن فيه هذه الولايات المتحدة في انحيازها المفرط للكيان الصهيوني وعدائها اللامحدود للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
لذلك فإن الأسئلة الاستنكارية لحالة التقاعس العربية والإسلامية إزاء المخطط «الإسرائيلي» لتدمير الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم، والتوسع الاستيطاني والتهويد للقدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية بهدف إقامة الدولة اليهودية كاملة على كل أرض فلسطين التاريخية والتعامل مع المملكة الأردنية باعتبارها «الوطن البديل» للشعب الفلسطيني، لن تقدم ولن تؤخر شيئاً ولن تحرك ساكناً إذا لم يمتلك العرب خطة ممنهجة تعمل في الاتجاه المعاكس لخطة تفكيك الوعي والعقل العربيين، أي خطة تستعيد الوعي والإدراك العربيين لحقيقة الصراع على النحو الذي يراه الصهاينة من قبل تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948.
يكفي أن نتذكر كيف ربط الصهاينة بين أسباب انتصارهم وهدف الإمعان في تقسيم وتفتيت الدول العربية وإقامة الدويلات والكيانات العرقية والطائفية التي لا تجد سبيلاً للبقاء إلا بالخضوع لهيمنة وسيطرة الدولة اليهودية – الصهيونية في فلسطين.
أقوال ديفيد بن غوريون رئيس وزراء «إسرائيل» الأسبق كانت شديدة الوضوح والصراحة بهذا الخصوص.
فهو القائل بأن «عظمة «إسرائيل» ليست في قنبلتها الذرية ولا في ترسانتها العسكرية، ولكن عظمة «إسرائيل» تكمن في انهيار دول ثلاث هي: مصر والعراق وسوريا، وهو القائل «ليست العبرة في قيام «إسرائيل» بل في الحفاظ على وجودها وبقائها وهذا لن يتحقق إلا بتفتيت سوريا ومصر والعراق». هكذا كان الوعي الصهيوني ولا يزال على يقين بأن تثبيت وجود الكيان الصهيوني وتأمين بقائه لن يتحققا إلا بانهيار وتفتيت وإعادة تقسيم الدول العربية خاصة مصر والعراق وسوريا، وما حدث للعراق وما يحدث لسوريا وما يهدد مصر هذه الأيام ليس بعيداً أبداً عما يحدث للأقصى وما يحدث للضفة الغربية، فالفاعل واحد أياً كانت المسميات طالما أن الهدف واحد لا يتغير ولا يتبدل.
ويكفي أن نتذكر ما جاء على لسان كبير حاخامات الجيش «الإسرائيلي» عقب نجاح القوات «الإسرائيلية» في اقتحام القدس والسيطرة عليها في يونيو/حزيران 1967.
فقد خاطب الحاخام شلومو جورين الجنرال عوزي ناركيس (قائد الوحدات «الإسرائيلية» التي استولت على المدينة) بإصدار أمرين كفيلين بتتويج خوذته بأرفع أكاليل الغار هما: تدمير قبة الصخرة وتقويض المسجد الأقصى.
وعندما تراجع الجنرال عن تنفيذ هذين الأمرين خشية من التداعيات التي قد تحدث وتفسد على «إسرائيل» انتصارها جاء رد الحاخام: «أنت لا تدرك المغزى الهائل لهذا الفعل.. هذه فرصة يترتب اغتنامها الآن بالذات غداً سوف تفوت الفرصة نهائياً».
والآن يجددون الفرصة بجرائمهم التي ترتكب ضد الأقصى لفرض سياسة التقسيم الزماني لدخول الأقصى بين المسلمين واليهود كمقدمة لتقسيم مكاني للأقصى يعطي لليهود المكان الذي يريدون فيما يسمونه ب «جبل الهيكل» لإقامة ذلك الهيكل المزعوم، وهي سياسة ذات مراحل تنتهي بهدم الأقصى نهائياً وتفريغ المكان لإقامة هيكلهم، ولذلك جاءت خطوة فتح «باب الرحمة» بعد إغلاقه لمدة ثمانية قرون منذ أن أغلقه صلاح الدين الأيوبي لصد الغزاة القادمين من الشرق.
فتح «باب الرحمة» خطوة لم يجرؤ «الإسرائيليون»عليها منذ احتلالهم القدس عام 1967، وهي خطوة جاءت عقب الصمت العربي والإسلامي والدولي على فرض سياسة التقسيم الزماني للأقصى بين المسلمين واليهود ومنع المعتكفين داخل الأقصى من البقاء داخله.
وعندما حاول الفلسطينيون الرد على الاغتيالات باغتيالات مماثلة للمستوطنين الصهاينة كان استنفار كل قادة الكيان وراء دعوة الحرب على الإرهاب، أي الإرهاب الفلسطيني أما إرهاب الدولة الصهيونية فهو من أعمال السيادة ومن إجراءات حرب التحرير واستعادة الأرض المقدسة من المغتصبين العرب كما يروجون.
لم يكتفوا بالتوسع في الإرهاب الإجرامي ضد الشعب الفلسطيني بل قرروا التوسع في الإرهاب الإجرامي ضد الأرض الفلسطينية بالدعوة إلى توسيع البناء والاستيطان، والإصرار على إنشاء مستوطنة في مكان اغتيال اثنين من المستوطنين الصهاينة، وتسريع مشاريع البناء في المستوطنات القائمة وإنشاء نقطة استيطانية في مكان العملية كخطوة رمزية.
هذه الرمزية تكشف مدى فجوة الوعي بين العقلين العربي والصهيوني وتفسر أسباب التخاذل العربي عن إغاثة الأقصى والدفاع عنه والانتصار له.
37 4 minutes read