ظلوا لسنوات طوال يعيشون في أقصى «الهامش» من خارطة العالم؛ حياتهم لا تسير مثل بقية البشر؛ أحلامهم وآمالهم في الاستقرار تدور ثم ترتد عليهم في مساحات ضاق بها أفق الأرض؛ مساحات لا تتسع إلا باتساع الفقر والبؤس والانكسار مرة والانتصار مرة؛ صباحهم مطارد ومساؤهم ليس كباقي المساءات حيث لا بديل من انتظار المجهول؛ حربا كان أم خلاصا من عدو؛ أم مزيدا من الموت الذي لا يخطئ يوما طريقه إليهم.. ورغم كل ذلك يتساءل البعض عن السبب الذي يجعل نظرتهم للحياة تمر من ثقب أكثر ضيقا من «خرم» إبرة !!
هذا الهامش من البشر هم أبناء حركة طالبان الذين نجحوا مؤخرا في الخروج من هذا الهامش الضيق ليصنعوا لبلادهم حاضرا ومستقبلا آمنا وسط دهشة العالم.
كانت الحركة منذ مايو الماضي قد شرعت في السيطرة على أجزاء كبيرة من المدن الأفغانية بعد أن أجبروا الأمريكان ومن قبل الروس على الانسحاب من بلادهم
طالبان.. التاريخ إلا قليلا
تصنف حركة طالبان بأنها حركة إسلامية سنية مسلحة ويصفها معارضوها بأنها حركة متطرفة.. ويرجع تسميتها بـ «طالبان» نسبة إلى الطلاب الأفغان الذين درسوا العلوم الشرعية في المدارس الدينية والجامعات الحقوقية بباكستان ثم انضموا للحركة تباعا بعد نشأتها في شمال باكستان عام 1994 ثم انتقلت الحركة إلى مدينة «قندهار» في الجنوب الغربي لأفغانستان. وبعدد غير قليل بمناطق الحدود الباكستانية.
وعقب انتهاء الحرب الروسية على أفغانستان انقسمت البلاد إلى عدد من الولايات والفرق المسلحة المتصارعة ما أدى في النهاية إلى اندلاع حرب أهلية طاحنة بالبلاد وكانت حركة طالبان آنذاك هي الأمل الوحيد للشعب الأفغاني في المحافظة على وحدة البلاد وهو ما دفع المزيد من الشباب الأفغاني للانضمام إليها كوسيلة لوأد هذا التناحر القبلي الذي راح ضحيته أكثر من 40 ألف أفغاني.
ويعتبر «الملا عمر» المؤسس لطالبان وهو الزعيم الروحي لها، ومنذ مبايعته أميرا للحركة و توليه رئاستها عام 1994 أعلن عزمه على القضاء على مظاهر الفساد الأخلاقي وإعادة الأمن والاستقرار داخل كامل الأراضي الأفغانية وقد تمكنت الحركة آنذاك من السيطرة على معظم الأراضي الأفغانية بما فيها العاصمة الحالية «كابول» التي سقطت في قبضة الحركة في سبتمبر 1996 وظلت طالبان تحكم البلاد لمدة 5 سنوات متتالية بعد انسحاب القوات الروسية منها وانتهاء الحرب الأهلية.
طالبان.. وتفجير مركز التجارة العالمي
وفي أعقاب الهجمات التي شنها إرهابيون على مركز التجارة العالمي بالولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر 2001 . تم وضع حركة طالبان في بؤرة الاهتمام الاستخباراتي العالمي وسرعان ما اتهمت الحركة بما سمي بتوفير الملاذ الآمن لزعيم تنظيم القاعدة آنذاك أسامه بن لادن ولأعضاء تنظيمه والذي يعتقد أنه كان وراء هذا الحادث الإرهابي غير المسبوق.
وبعد هذا الحادث الدموي الذي أرعب العالم من أدناه إلى أقصاه قامت أمريكا بغزو أفغانستان برا وجوا بغية الوصول لأسامه بن لادن وتنظيمه والإطاحة بطالبان، وبحلول نوفمبر 2001 سقطت العاصمة «كابول» والعديد من الولايات والمدن الأفغانية في قبضة تحالف القوات الأمريكية وقد راح ضحية هذ الغزو الآلاف من حركة طالبان بالإضافة إلى وقوع الآلاف غيرهم في الأسر الأمريكي.
وبعد سقوط «كابول» في أيدي الأمريكان لاذ «الملا عمر» بالفرار مع نفر كبير من أعوانه. ويعتقد أنهم لجأوا إلى مدينة «كويتا» الجبلية الباكستانية. وقد توفي الملا عمر عام 2013 في مستشفى بكراتشي وتولى نائبه الملا منصور زعامة الحركة. كما تولى الملا هيبة الله أخوند زاده زعامة الحركة بعد مقتل الملا منصور في غارة جوية
تكلفة مريرة
وبحلول عامي 2010 و2012 كان للولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 100 ألف جندي في أفغانستان. و هو ما أدى إلى رفع تكلفة الحرب على طالبان إلى نحو 100مليار دولار سنويا. وتؤكد العديد من الاحصاءات أن هذه الحرب التي استمرت 20 عاما أودت بحياة 47 ألف مدني أفغاني. ومقتل نحو 2442 عسكريا أمريكيا وأكثر من 3800 متعاقد أمني أمريكي. بالإضافة إلى مقتل نحو 1144جنديا من دول التحالف الدولية.
وأغلب الظن أن هذه التكلفة الباهظة في تلك الحرب العبثية الدامية هي التي جعلت الرئيس الأمريكي جو بايدن يسرع بغسل يده من كل هذه الدماء ويقرر الانسحاب من مستنقع الدم والنار ومحاولة التفاوض مع طالبان إلا أن الحركة مازالت تراوح مكانها خاصة بعد ماحققتة من انتصارات وأحكمت كامل قبضتها على معظم الأراضي الأفغانية وأصبح الطريق أمامها ممهدا للقفز على العاصمة «كابول».
مفاوضات سلام هشة
ويرى العديد من المراقبين للمشهد الأفغاني أن الأمر لا يحتاج إلى مفاوضات سلام. إنما يحتاج إلى عقلية سياسية قادرة على استكشاف ما يتجه إليه بشر هذا «الهامش». الذي حقق انتصارات في زمن قياسي لم يحققه الروس ولا الأمريكان في جبال وكهوف الأفغان الوعرة.
إن أفغانستان في ظل هذه الأجواء المتسارعة والضاغطة عليها في حاجة إلى من يتقدم لإنقاذ أبنائها من الفقر والتشرد.. إنقاذهم من التمرد والتطرف.. إنقاذهم من هذا الإحساس المتضخم بالانتصار الذي قد يصنع منهم وقودا مجانيا لألات حرب أخرى أكثر دمارا.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا