لم يكن مفاجأة التدخل العسكري الروسي في سوريا، والمطلع على تاريخ روسيا ،يعلم انها من الدول الاستعمارية الخمس، قبل الحرب العالمية الاولى، عندما كانت تحت حكم القياصرة، وفي حقبة الاتحاد السوفيتي كثيرا ما كانت البراغماتية تتغلب على الطابع الإيديولوجي للدولة، كما حدث مع نظام البعث في العراق في السبعينيات من القرن الماضي، عندما أباد النظام الحزب الشيوعي العراقي، ولم يؤثر ذلك على علاقة الاتحاد السوفيتي مع النظام السابق، بل ازداد تعاونه معه في المجال التجاري والعسكري.
ولكي تتضح الصورة، وتنجلي الضبابية المفتعلة من قبل الإعلام المضلل ،ومناكفة الأحزاب الحاكمة، وصخب الطائفية المقيتة، علينا العودة إلى الحرب العراقية الإيرانية، فما يحدث اليوم هو امتداد لحدث الثورة الاسلامية المجلجل،الذي قذف بشركات النفط العملاقة خارج إيران، وخسارة الولايات المتحدة الأمريكية لأربع عشرة قاعدة جوية، وعندما اجتاح الجيش العراقي الأراضي الإيرانية في بداية الحرب، لم تكن امريكا راغبة في إسقاط الثورة الإسلامية في إيران، خوفا من سيطرة حزب تودة الشيوعي على السلطة في إيران، كذلك بادلها الرغبة ذاتها وعلى انفراد الاتحاد السوفيتي، خوفا من عودة الشاه إلى السلطة ،لأن ذلك يعني عودة امريكا لإيران.
واستمرت لعبة التوازن بين القطبين ثماني سنوات، كانت إيران تشتري العتاد لسلاحها الأمريكي الصنع،من بريطانيا وفرنسا والسويد، وإحدى الصفقات كانت من إسرائيل، وهذه الدول جميعها تدور في الفلك الأمريكي، مما يعني أن السلاح كان يصل إلى إيران بموافقة أمريكية، وكان العراق يشتري السلاح من الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، ومعظمه بتمويل خليجي وبمباركة أمريكية، وبعض دول الخليج كانت مستاءة من ذلك، ولكن امريكا كانت تفرض عليهم التعاون مع العراق، كما ذكر ذلك حاكم قطر الأسبق الشيخ جاسم آل ثاني والد الشيخ حمد، للرئيس الراحل حافظ الأسد، عندما كان يقيم في سوريا، بعد عزله عن السلطة من قبل ولده الشيخ حمد، ذكر إن السفير الأمريكي قدم بنفسه إلى مكتبه عندما كان في السلطة وطلب منه تمويل صفقة سلاح لصالح العراق.
وبعد اجتياح الجيش العراقي الكويت أصبح شبه الاتفاق الضمني، أن يتحول العراق للنفوذ الأمريكي وتتحول إيران للنفوذ السوفيتي، وبدأ الاتحاد السوفيتي يسلح إيران ويطور قدراتها النووية، وبدأت امريكا بعزل نظام صدام حسين، وتشديد الحصارعليه والتنسيق مع المعارضة العراقية لإسقاطه ،وقبيل الغزو الأمريكي للعراق رفضت روسيا استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يبيح لأمريكا احتلال العراق، وهددت باستعمال حق النقض الفيتو.
وبعد عام 2003 لم تهنئ امريكا بغنيمتها في العراق، وبدأت فصائل المقاومة الإسلامية المدعومة من ايران معارضتها للوجود الأمريكي في العراق، وفتحت سوريا حدودها لتسهيل دخول الإرهابيين إلى العراق، مما جعل امريكا في وضع حرج،وحسم الرئيس الأمريكي أوباما الأمر عندما وعد ناخبيه بسحب القوات الأمريكية من العراق، مكتفيا بالوجود المخابراتي والتأثير السياسي،رغم انتقاد الجمهورين و معارضتهم له.
خرجت امريكا من العراق وهي مكلومة، وبدل الحرية والديمقراطية التي وعدت بها وقالت عنها أنها سوف تكون نموذج للشرق الأوسط الجديد، خلفت ورائها نزيف الدم والقتل الممنهج بسبب الطائفية،وصور لاشلاء ممزقة في الشوارع جراء العمليات الإرهابية اليومية ، وفساد مالي وإداري، وبلد يقف على حافة الهاوية والتقسيم.
شددت امريكا الحصار على إيران، ويبدو أن إيران لم تدرك خطورته إلا بعد سنين، وبدأت بتثوير الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد، بالتوافق مع حلفاء امريكا الأوفياء، وبالدرجة الاساس تركيا والسعودية وقطر،وقد بدء هذا التحرك عند صدور قرار من مجلس الأمن،يطالب بخروج القوات الأجنبية من لبنان، ولما لا توجد قوات اجنبية على الأراضي اللبنانية غير القوات السورية، لأن القوات الإسرائيلية انسحبت من جنوب لبنان قبل سنين فالمقصود بالقرارسوريا بالتحديد،تلاه محاولة إلصاق تهمة اغتيال رفيق الحريري بالنظام السوري عن طريق محكمة الجنايات الدولية في لاهاي،ولما كان العمل المسلح يحتاج إلى اناس مستعدين للموت في كل لحظة، لذلك تم دعم الحركات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمين وحركة حماس الفلسطينية، والاخيرة لطالما دعمها النظام السوري، وساءت العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية بسببها، فكانت رأس الحربة في العمل العسكري في سوريا، بسبب امتلاكها للسلاح ومعسكرات خاصة بها، وبعد مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، تنبهت امريكا لخطأها وحاولت تغيير استراتيجيتها بدعم ما يسمى المعارضة المعتدلة، خالف هذا التوجه تركيا والسعودية لأنهما كانا ولازالا اللاعبان الرئيسان في ورقة الطائفية، ولم يشاءا أن يتخليان عنها، ونشب الخلاف بين الحلفاء، وكذلك تمكنت روسيا إيقاف العملية العسكرية الأمريكية في ضرب النظام ،بعد اتهامه باستخدام الأسلحة الكيمياوية، مما أعطى فرصة للنظام أن يلتقط أنفاسه، وكذلك فرصة للحركات التكفيرية في
سوريا من ترتيب وضعها الاقتصادي والإداري والعسكري، والسيطرة على معظم الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام، وإخراج ما يسمى بالمعارضة المعتدلة خارجة دائرة التأثير الجيوسياسي.
وفي العراق ارتكبت الحكومة العراقية بالتزامن مع الوضع الدولي والإقليمي القلق والحرج جدا ،أخطاء قاتلة أدت إلى خسارة ثلث البلاد بيد داعش، فقبيل خروج القوات الأمريكية من العراق عام 2011 كانت القاعدة تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولم يتبقى منها سوى بضع مئات وجميعها خلايا نائمة، وكان العامل الرئيس لاخمادها هو الصحوات ،والتي شكلها الأمريكان من الفصائل السنية المسلحة غير القاعدة، وعند خروج امريكا لم تكن الحكومة العراقية راغبة بهذه الفصائل، وكانت خجولة بالتعامل معها، واستبدلتها بشيوخ العشائر، وهم في الواقع غير مؤثرين ولا راغبين في القتال، كان همهم الرئيس الجاه والمال، ونقطة أخرى لا تقل أهمية هي مشكلة حزب البعث المنحل، كذلك سوفت الحكومة هذا الملف مرات عدة، بحجة المحرومية والمظلومية ولم تتعامل معه بروحية رجال الدولة، بل بعقلية ثأرية قبلية، ويقال إن من سجلوا أسمائهم في سجلات المصالحة الوطنية، من الحركة النقشبندية التي تعتبر الجناح المسلح لحزب البعث المنحل،بلغ عددهم 250 الف يريدون براءة الذمة والعودة إلى الحياة المدنية، وبدلا من أن تعيدهم الدولة إلى وظائفهم، أصدرت قانون المساءلة والعدالة ، مما أدى إلى نبذ الشارع السني للسياسين المشتركين في العملية السياسية، رافقه اعتراض الحكومة العراقية على إسقاط نظام بشار الأسد، وقد توج هذا الاعتراض عندما أبلغ رئيس الوزراء نوري المالكي، الرئيس الأمريكي باراك اوباما،بأنه يرفض إسقاط النظام السوري، متناسيا زلماي خليل زادة الذي اختاره رئيس وزراء بدل الجعفري في فترة حكمه الأولى، ولم يقتصر الموقف على القول، بل تعداه إلى السماح لمليشيات عراقية تابعة لإيران بالقتال في سوريا إلى جانب النظام السوري، وكذلك استخدام الطائرات الإيرانية للاجواء العراقية لنقل السلاح والامدادات إلى سوريا، مما ادى الى برود العلاقات العراقية الأمريكية إلى حد كبير، فبعد ما كان اتصال شبه يومي بين الحكومتين الأمريكية والعراقية،من الرئيس نفسه أو نائب الرئيس أو الخارجية الأمريكية أو البنتاغون، وصل الأمر في آخر زيارة للمالكي إلى أمريكا، أن قام بدفع أجور الفندق،الذي يسكن فيه الوفد العراقي أي أنهم لم يعتبرونه ضيفا رسميا، فقدت الحكومة العراقية نصيرها القوي و بشكل شبه تام، ومع ذلك قامت امريكا بتحذير الحكومة العراقية من هجوم داعش الوشيك على المدن العراقية، وزودت نوري المالكي وهو في أمريكا بقرص يبين مواقع داعش ومعسكراتهم ،ولكن لافرق بين وجد القرص من عدمه، والسبب أن العراق لا يمتلك طائرات مقاتلة ليقصف هذه المعسكرات وتجمعاتهم في الصحراء،ولاتوجد قوات برية قادرة على مطارتهم ثم القضاء عليهم ،وكانت الانتخابات البرلمانية في العراق على الأبواب وكان المالكي محرج من وضع الفلوجة التي سقطت بيد داعش قبل الموصل، وهو بحاجة إلى صنع نصر وان كان إعلاميا ، لذلك هاجم مخيمات الاعتصام بدل معسكرات داعش في الجزيرة، بججة ان الخيم فيها عناصر من القاعدة ،ولم يلقى القبض على اي شخص داخل مخيمات الاعتصام لتبرر الحكومة دعواها ،فكانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير.
هاجم داعش مدينة الموصل فرمت القوات المدافعة عنها أسلحتها من دون أن تطلق رصاصة واحدة باتجاهها، وكأنها غير معنية بالأمر،وانسحبت كذلك قوات البيشمركة من المدينة من غير قتال، مما جعل المدن في وسط وشمال العراق، تتهاوى وكأنها قطع الدومينو، لم تسعف الطائرات الأمريكية القوات العراقية،كما فعلت مع قوات البيشمركة، وبدأت بوضع الشروط مقابل قصف داعش، وافقت الحكومة العراقية الجديدة بقيادة حيدر العبادي على كل شروط التحالف الدولي الذي شكل لمقاتلة داعش، وبدأ القصف الجوي الأمريكي على داعش، كانت الضربات في أول أمرها نجلاء، وقتلت كبار القادة الميدانيين لداعش، ولكن داعش استطاعت ان تعوض خسائرها بالأشخاص بوقت قصير،بضخ دماء جديدة من المتطوعين الأجانب ،القادمون من كافة أرجاء المعمورة، أمام تغاضي تركي عندما يعبرون حدودها إلى سوريا، ولما كان من غير الممكن ان يتحقق نصر على داعش بغير قوات برية على الأرض، بدأت امريكا بتدريب 5400 شخص سوري على القتال كدفعة اولى من أجل مسك الأرض، المفترض تحريرها من داعش في سوريا، وبعد أن إكتمل التدريب و دخلوا إلى سوريا، ذهبوا مع عجلاتهم واسلحتهم إلى جبهة النصرة ،المصنفة ضمن المنظمات الإرهابية، ولم يبقى منهم سوى أربعة أو خمسة أشخاص، فأصبحت امريكا أمام خيارين اما داعش أو النظام، وأصبح الطريق ممهدا للدخول الروسي في سوريا، وبدأت روسيا بارسال قواتها إلى سوريا ، ثم قصف كل المواقع التي هي خارج سلطة النظام بشدة وبشكل غير معهود بما فيها مواقع ما يسمى بالمعارضة المعتدلة ،مما جعل امريكا ودول الخليج تشن حملات إعلامية على روسيا، والأكثر من هذا بدأت وسائل الإعلام الغربية تروج أن القوات الروسية منقطعة وان روسيا ليس لها موانئ في المياه الدافئة،وكان الرد الروسي أن أطلقت صواريخ من بحر قزوين كرسالة لحلف الناتو أن ضراعنا أصبحت طويلة، وخصوصا ان هذه الصواريخ يمكن ان تطلق من الطائرات الروسية ويصل مداها الى 2600 كم ،مما يعني انها تصل الى اغلب ارجاء المعمورة والطائرات الروسية داخل اراضيها ،واخترقت الطائرات الروسية الأجواء التركية مرتين،وعادت دون أن تتمكن الدفاعات التركية من إسقاطها، وقبل سنتين أسقطت الدفاعات السورية وقيل الروسية طائرتين دخلتا المجال الجوي السوري.
سارع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ليرحب بأي ضربة روسية لداعش على الأراضي العراقية،وطبعاً امريكا لا يحلو لها ذلك، فالعراق مصيره أمريكي إلى أن يشاء الله، وأن لم يدرك الساسة العراقيين ذلك،أو أدركوا ولم يعجبهم، ومع ذلك فإن الوجد الروسي في سوريا افادة العراق كثيراً، ويبدو أن أمريكا قررت منح العراق نصرا مجانيا، وتغاضت عن الشروط المسبقة التي كانت تفرضها على الحكومة العراقية، وذهبت السنون في حرب داعش لتتحول إلى شهور،لانها لا تطيق أن تصبح سوريا الروسية خالية من داعش، ويبقى العراق الأمريكي محتل من قبل داعش.