خلال الحرب العالمية الثانية تحولت منطقة المشرق العربي إلى ساحة رئيسية للصراع بين المتحاربين. وعندما هزمت فرنسا حاولت بريطانيا استمالة الإدارة الفرنسية في سوريا ولبنان ولكنها فشلت في هذا المسعى. عندها وجد القوات البريطانية في مصر أنها باتت مطوقة: من الغرب كانت قوات رومل تهدد بدخول القاهرة واجتياح أراضي مصر، ومن الجنوب، أي في سوريا ولبنان، كانت القوات التابعة لحكومة فيشي الفرنسية تشكل رأس جسر لمحاصرة القوات البريطانية وإلحاق الهزيمة بها. فضلاً عن ذلك كان هذا الحدث كفيلاً بتعطيل مواصلات بريطانيا مع الهند ومع الاتحاد السوفييتي السابق مما يسمح بانهيار الجبهة الروسية ومن ثم حسم الحرب لصالح المحور. هذه العوامل أدت كما قال ونستون تشرشل، رئيس حكومة الحرب البريطانية في مذكراته حول الحرب إلى أن «تفرض سوريا نفسها علينا»، وخوفاً من أن يتحقق كابوس الهزيمة المروع توصل تشرشل إلى أنه «على بريطانيا وعلى حلفائها إرضاء العرب بأي ثمن».
توصل تشرشل إلى هذا الاستنتاج رغم أنه لم يكن مؤيداً، بصورة خاصة، للقضية العربية، بل إنه كان متعاطفاً مع خصومها. كان تشرشل مؤيداً للصهيونية مما دفع «إسرائيل» إلى بناء نصب تذكاري له تقديراً لخدماته للمشروع الصهيوني، وهو تكريم لم يحصل عليه أي زعيم بريطاني آخر حتى وزير الخارجية البريطاني لورد بلفور صاحب الوعد الشهير حول الوطن القومي اليهودي. وكان تشرشل متعاطفاً مع فرنسا إلى درجة أنه عرض على حكومتها إعلان وحدة الدولتين البريطانية والفرنسية عندما هزمت الجيوش الهتلرية الجمهورية الفرنسية.
رغم تعاطف تشرشل مع الصهيونية، فإن حكومته طبقت خلال الحرب العالمية الثانية سياسة الورقة البيضاء التي تعهدت فيها بالحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ورغم تعاطف تشرشل مع فرنسا وحرصه على دعم المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، فإن حكومته أيدت استقلال سوريا ولبنان. فهل خالف الزعيم البريطاني معتقداته عندما اتخذ هذه المواقف؟ كلا، اتخذ تشرشل هذه المواقف لأنه كان محباً لبلاده ويخوض معركة مصيرية من أجل إنقاذها من الاجتياح النازي، ولأنه وجد أن هذه المعركة تقتضي إرضاء العرب وكسب السوريين واللبنانيين ضماناً لانتصار الحلفاء في منطقة مهمة من الناحية الجيوسياسية.
لقد فرض السوريون واللبنانيون أنفسهم على الحلفاء وتصرفوا وفقاً لمقتضيات الحكمة السياسية والالتزام الوطني فتمكنوا من الوصول إلى الاستقلال قبل العديد من الدول التي تفوق سوريا ولبنان حجماً وعدداً وقوة.
إن الوضع في سوريا ولبنان يشبه اليوم وضع البلدين في الأربعينات من جوانب معينة. ففي المنطقة اليوم سيولة سياسية تشبه حالها في الماضي. وهناك تزاحم دولي على التدخل في سوريا ولبنان يشبه التزاحم الذي عرفته المنطقة بالأمس. وأهداف التزاحم الدولي اليوم قد لا تكون في أهمية التزاحم بالأمس. ففي الأربعينات كانت الجيوش المتحاربة تخوض حروباً شاملة، وكان الصراع وجودياً كما شهدنا في نموذج الهولوكوست، أما اليوم فإن الصراع على المشرق ليس وجودياً ولكن له أهمية كبرى. فبعد جيورجيا وأوكرانيا سوف تكون معركة سوريا الحلقة الأخيرة في رحلة استرداد المكانة الدولية المسلوبة. وسوريا تفرض نفسها اليوم على العالم سواء بسبب احتمالات الصراع، أو بسبب تعقيدات قضية المهاجرين ومضاعفاتها الإنسانية والوجدانية في أوروبا. فهل نجد من يقول إنه على دول العالم الكبرى أن ترضي العرب بأي ثمن؟ وهل يجد قادة الدول الكبرى في المسألة السورية حافزاً إلى إرضاء العرب اليوم كما حاول تشرشل وبعض القادة العالميين إرضاءهم إبان الحرب العالمية الثانية؟
لقد توفر ذلك الحافز عندما كان هناك مقدار معقول من التفاهم بين القيادات في المنطقة وعلى صعيد الرأي العام فيها حول قضايا الانتماء العربي والاستقلال الوطني في فلسطين الدول العربية الحريات الشخصية والجمعية. كذلك كان هذا الموقف ممكناً عندما كان العرب متفقين على الأولويات التي يتوخونها وعلى المطالب التي يتقدمون بها إلى المجتمع الدولي وعلى المؤسسات الدولية التي يتحركون من خلالها. خلافاً لتلك الحال التي كانت قائمة آنذاك فإن الانقسامات تجتاح المنطقة، والحوار الجاد البناء معدوم بين أطرافها الفاعلة.
يعتقد الكثيرون أن توصل العناصر الفاعلة في المنطقة العربية إلى التفاهم حول قواعد السلوك والاشتباك ومبادئ العمل السياسي وأسس تنظيم الحياة العامة أمر في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً. ويرى البعض فرقاً كبيراً بين الجماعات السياسية في المنطقة بالأمس وبينها اليوم. ففي الماضي، قدمت الحركات السياسية في الداخل ولبعضها بعضا تنازلات مهمة لكي تحد من استغلال القوى الخارجية والكولونيالية للتوترات والانقسامات الداخلية. كانت هذه القوى الأخيرة تحاول اللعب على أوتار الصراعات الطائفية وتعمل على تغذيتها بقصد أن تجد لها سنداً وظهيراً محلياً في كل بلد عربي يغنيها عن خوض المعارك المباشرة ضد أهله. مقابل ذلك سعت القوى الوطنية والاستقلالية العربية إلى إفشال هذه السياسات عبر تقديم التنازلات التي تؤكد الالتزام بمبادئ التعدد والتنوع. ولقد أتت هذه الأفعال ثمارها، فسقطت الكثير من الحواجز والسواتر والعقبات التي كانت تفكك عرى المجتمعات العربية وأعيد تركيب العلاقات بين أبناء المنطقة الواحدة على أسس ترسخ الالتزام بالتنوع والوحدة معاً.
إن إحياء هذه المسارات صعب ولكنه غير مستحيل. فالذين يسعون إلى تحقيق هذه الأهداف اليوم يصابون بالإحباط نتيجة ما يجابهونه من صعوبات. ولكن علينا أن نتذكر أن دواعي الإحباط كانت أكبر بكثير مما هي الآن. لقد كان النظام الإمبريالي الأوروبي يرزح بكل ثقله على الجسم العربي. أما اليوم فإن الدول الكبرى هي فعلاً بحاجة إلى التفاهم مع العرب حتى تتخلص من الكثير من مآزقها.
الأهم من ذلك أن يدرك أهل القرار العرب أنهم تخلوا عن لغة السلاح والقهر والانتقام، وإذا تذكروا فوائد الوصول إلى تنازلات متبادلة والبحث عن المصالح المشتركة وتحقيق المصالحات الوطنية، فإنهم سوف يتمكنون من إعادة السلام والازدهار إلى المنطقة.
33 3 دقائق