اعتاد الكيان الصهيوني منذ سنواتٍ طويلةٍ أن يقاتل خارج «حدوده»، وأن يخوض حروباً على أرض خصومه بعيداً عن مستوطنيه، وأن يتوسع على حساب «جيرانه»، معتمداً إلى درجةٍ كبيرةٍ على ذراعه العسكرية الطويلة، وسلاحه الجوي الحديث والمتطور، وترسانته الضخمة من الصواريخ والقذائف المدفعية بعيدة المدى، التي تطلقها دباباته ومدافعه الميدانية، وغيرها من الأسلحة الفتاكة المدمرة التي يتميز بامتلاكها، ويصنع بعضها بنفسه، وتزوده بالحديث والمتطور منها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أجنبية أخرى غيرها كثيرة، فيشعر وهو يقاتل بعيداً عن حدوده بالطمأنينة على شعبه، ويأمن على مصالحه وممتلكاته، فلا يطالها القصف، ولا تشملها العمليات الحربية، ولا يتهدد مستوطنيه أي خطرٍ.
لكن العدو الإسرائيلي صُدم في حروبه الأخيرة، وذُهل من قدرة المقاومة على نقل المعركة إلى عقر داره ووسط مستوطنيه، وأذاقهم من نفس الكأس الذي جرعها للفلسطينيين، فقد نجحت فصائل المقاومة الفلسطينية في تحويل كل فلسطين إلى ساحة معركةٍ حقيقية، وأدخلت ملايين المستوطنين الإسرائيليين الستة وأكثر إلى الملاجئ، وإلى الأماكن المحصنة المخصصة للحماية في ظل الحروب والكوارث، وتمكنت على مدى الساعة من إمطار المدن الإسرائيلية كافةً في العمق والقلب، وفي الشمال البعيد والجنوب القاصي، وفي الجوار القريب ومستوطنات الغلاف، مما حول فلسطين التاريخية إلى ساحة حرب حقيقية وأرض معركة طاحنةٍ، يتألم فيها الإسرائيلي ويشكو، ويقتل فيها ويدمر بيته، ويشرد بسببها ويعاني من ويلاتها.
لم يعد العدو الإسرائيلي يقوى على المواجهة والصمود، فقد صدع رؤوس مستوطنيه لسنواتٍ طويلة، بأن جيشه لا يقهر، وأن سلاحه لا يفل، وطيرانه الحربي لا يتوقف، وحدوده لا تنتهي، وأن صواريخه الدقيقة تطال كل هدف، وتسكت كل فوهة نار، وتدمر كل منصة صواريخ، وتعطل إلى بطارية رادار، ومَنَّى مستوطنيه بطول نومٍ وراحة نفسٍ وطمأنينة بال، فلن تطالهم الحرب، ولن تقض مضاجعهم الصواريخ، ولن يحدث شيءٌ يعكر صفو عيشهم، أو يغير أسلوب حياتهم.
فجأةً انطلقت الشهب تغطي سماءهم، وتحرق «أرضهم»، وتشعل الأرض حولهم، وتنشر الرعب بينهم، وتضامن الفلسطينيون معاً في أرضهم المحتلة عام 1948، وفي القدس والضفة الغربية، فواجهوا العدو صفاً واحداً، وأربكوا جيشه وفرقوا صفه، وأجبروه على إعادة تنظيم عديد جيشه واستدعاء الآلاف من جنود وضباط الاحتياط لمواجهة التحدي الجديد. والتصدي للهبة الفلسطينية التي نقلت شعلة المواجهة إلى كل بيتٍ إسرائيلي. وأوقدت جذوة الحرب بينهم وقريباً منهم، فأدرك العدو أن الزمان قد تغير وأن المقاومة قد تبدلت، وأن ما كان لن يعود. وما اعتاد عليه لن يبقى، وما زال في جعبة المقاومة الكثير والجديد والمفاجئ الصادم، ولعل الأيام القادمة تزيد في قلقه، وتعمق خوفه، وتؤسس لهزيمته ونهايته.
لا شيء يوجع العدو سوى الإحساس بالفقد، والشعور بالألم، ومعاملته بنفس الأسلوب وبذات القدر، فلا يحد العدو سوى القوة، ولا يرغمه على التراجع والانكفاء سوى المقاومة، فقد اعتاد لعقودٍ طويلة ألا يدفع ضريبةً من دمه، وألا يتكلف في المواجهة شيئاً من اقتصاده، وألا تتشوش حياة مستوطنيه خلال الحروب. إذ أنها تجري بعيداً عنهم، وتقع على أرض خصومهم ولا تنعكس عليهم إلا خبراً أو صورة، أما اليوم فهي تجري بينهم، وتنعكس فيهم تابوتاً وجنازة، وبيتاً يهدم وناراً تشتعل، وحافلةً تحرق وسيارةً تدمر، ورعباً يسكن وخوفاً يسيطر، وانهياراً في الاقتصاد وإغلاقاً للأجواء، وتهديداً للطيران المدني ووقفاً للرحلات الجوية، وكأنها إشارات الخاتمة وعلامات النهاية. فالتفكيك قادم والزوال بإذن الله قريب. وإننا وإياهم لعلى موعدٍ لن نخلفه، مكاناً وزماناً سوىً، تعود فيه فلسطين وتزول فيه إسرائيل اسماً ورسماً، وخارطةً وأرضاً.
moustafa.leddawi@gmail.com
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا