العين تناطح المخرز، والإرادة تنتصر على القوة، والإيمان يهزم الأوهام، والثبات بوابة النصر، والصبر طريق الفرج، والأسير أسمى من السجان وأقوى من الجلاد، والمعتقل قوةٌ كامنةٌ وثورةٌ عارمةٌ، لا تقعده السجون ولا تفت في عضده القيود، وإننا بأسرانا الأبطال وأسيراتنا الماجدات لعلى أبواب النصر وتباشير الفجر مهما طال الليل وادلهم ظلامه، ولا شيء مستحيل على شعبنا أو صعبٌ على أمتنا، فنحن شعب الجبارين، وأبناء الأمة التي لا تعرف المستحيل، ولا تقبل أن تخنع أو أن تذل وتلين.
هذه كلمات الأسيرة الفلسطينية المحررة عبير الوحيدي، تقولها بثقة، وتنطق بها بيقين، وترددها بثبات، وهي تستذكر في يوم الأسير الفلسطيني، ضمن بعض ذكرياتها الكثيرة في السجون والمعتقلات الصهيونية، ثلةً صغيرةً من الأسيرات الفلسطينيات، اللواتي استطعن بصبرهن أن يتحدين السجان، وأن يقفن بإرادتهن كاللبؤات الثائرات في وجه سلطات الاحتلال، وأن يرفضن أمره ويعارضن سياسته، وهن في السجون وخلف القضبان، والقيود في أيديهن، والسلاسل تقيد أرجلهن، والعصابات تعصب أعينهن، وجدران الزنازين تضيق عليهن، وجلاوزة السجون يتطاولون عليهن، ويحاولون التأثير على معنوياتهن وكسر إرادتهن، ولكنهن كُنَّ أمامه شامخاتٍ شموخ الشمس، راسخاتٍ رسوخ الجبال، ينظرن إليه من علٍ، ويملين عليه شروطهن بعزةٍ وكبرياء.
استمعت إلى الأسيرة المحررة عبير الوحيدي التي كانت محكومةً بالسجن سبعة عشر عاماً. وهي الشابة اليافعة، الطالبة المتفوقة، الابنة المدللة، ساكنة البيت الوارف، وعاشقة الحب الواعد. التي لم تؤخذ ببريق الدنيا وزخرف الحياة، ولم تغرها مباهج العيش ومتع الشباب. ولم تجرفها تيارات الحداثة وميول الصبا، بل سكنت المقاومة قلبها. وعاشت في حناياها أملاً في تحرير بلادها وعودة شعبها. وقد كانت أمنيتها الكبرى تحرير الأسرى وعودتهم إلى بيوتهم وأسرهم، فناضلت من أجلهم، وضحت في سبيلهم. والتحقت بالخلايا العسكرية دفاعاً عنهم. وهي لا تعلم أنها ستلقى مصيرهم، وستكون يوماً مثلهم. وسيصيبها ما أصابهم، وستسكن الزنازين معهم. ولكن هذه الخاتمة المرعبة لم تخفها ولم تمنعها، بل لعلها زادتها إرادةً وعزيمةً، ومنحتها القوة والشدة، لتعمل المزيد وتقدم الأكثر، لينال الأسرى حريتهم، ويتمتعون برؤية أهلهم والعيش مع عائلاتهم.
تلقت عبير وأخواتها الأسيرات إثر اتفاق طابا عام 1995، خبر الإفراج عنهن من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، ففرحن وسعدن، واحتفين وغنين، وتقافزن وتعانقن، وتبادلن التهاني والمباركات، وبَدأنَ في تجهيز أمتعتهن وجمع حاجاتهن، فهذا يومٌ يتمناه كل أسيرٍ، ويعيش على أمل الحرية فيه حتى آخر يومٍ في عمره، خاصةً أولئك المحكومين بالمؤبد مرةً أو مراتٍ عدة، الذين لا يتوقعون الحرية بغير الصفقة أو الاتفاق، وكغيرهن من الأسرى والمعتقلين، بتن ينتظرن بفارغ الصبر اليوم الذي ينادي عليهن السجان ليخرجن من غرفهن، ويغادرن مهاجعهن، ليعدن أحراراً إلى بيوتهن، وباتت تتراءى أمام عيونهن صور أهلهن، ومناظر بيوتهن، ومشاهد أحيائهن، وأخذت تعود إليهن ذكرياتهن الخاصة وماضيهن الجميل.
لكن فرحتهن لم تكتمل، وسعادتهن سرعان ما خمدت، فخفتت الأصوات. وبهتت الابتسامات وتراجعت الأمال. إذ بلغهن أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تتحفظ على بعض الأسيرات. وترفض الإفراج عنهن، وتصنفهن بأنهن خطيرات، وأن أيديهن ملطخة بالدماء. وقد قتلن أو شاركن في قتل مستوطنين إسرائيليين، فلا يجوز الإفراج عنهن أو إطلاق سراحهن، وعليه فلن يسمح لهن بالخروج. بينما سمحت بإطلاق سراح غيرهن من الأسيرات، ممن ترى أن «أيديهن غير ملطخة بالدماء». وأن خروجهن لا يشكل خطراً على أمن كيانهم وسلامة مستوطنيهم.
تستذكر عبير الوحيدي هذه الأيام وكأنها اليوم، وتقول أن الأسيرات الفلسطينيات التسعة وعشرين، وقفن معاً متضامناتٍ صفاً واحداً، متماسكاتٍ موحداتٍ كلمتهن واحدة، وصرخن في وجه المحتل بكل عزةٍ وكبرياءٍ، أننا هنا باقون، إما أن نخرج جميعاً أو نبقى جميعاً. فلا استثناء لأسيرة، ولا استبقاء لأخرى، ولا مكان لمبررات العدو ومسوغاته. فنحن جميعاً مناضلاتٌ ومقاوماتٌ في سبيل قضية حق. تؤيدها كل الأعراف والمواثيق الدولية. ونحن لا نستهوي القتل ولا نحب ترويع الآخرين، ولا نستهدف المدنيين ولا نقتل غير المحاربين. ولعل عبير رفضت يوماً أن تطلق النار على مستوطنين كانوا تحت مرمى نيران بندقيتها، وامتنعت عن إطلاق النار عليهم بسبب وجود أطفالٍ معهم، وقد كان بإمكانها قتلهم، ولكن فهمها للمقاومة الشريفة النبيلة، وإيمانها بقضيتها العادلة، منعها من إطلاق النار على الصبية والأطفال.
جن جنون سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وأخذت سلطة مصلحة السجون تضغط على الأسيرات حيناً وتفاوضهن حيناً آخر، ففرقتهن وباعدت بينهن، وعزلتهن وعاقبتهن، وحاولت الوقيعة بينهن، واستغلت كل السبل الممكنة لتفريق جمعهن وكسر كلمتهن. ومارست في حقهن القمع وشنت ضدهن حملات التفتيش الهمجية، وقطعت عنهن الكهرباء الماء. ولكن الأسيرات الفلسطينيات وقفن بعزةٍ وكبرياء، وكأنهن الحرائر الأحرار، وكررهن شرطهن وأعدن على مسامع الاحتلال كلمتهن، إما نخرج جميعاً معاً أو نبقى معاً، فلن تخرج منا أسيرةٌ وتترك وراءها أختها، وتبقي مكانها سواها. وكان موقف الأسيرات اللاتي وردت أسماؤهن قوياً ثابتاً، ولم يضعفهن حنين العودة، ولا مشاعر اللقاء أو عواطف الأسرة والعائلة.
سنة ونصف مضتا على اتفاق طابا الذي قضى بالإفراج عن الأسيرات الفلسطينيات، ولكن العدو الصهيوني كعادته التي عرف بها، فقد نكث بالاتفاق وأخلف الوعد، وأصر على استبقاء بعض الأسيرات. ولكنه ما كان يعلم أنه سيواجه مقاومةً لا تعرف اللين، وصبراً لا يعرف العجز، ويقيناً لا يؤمن بالمستحيل. فبدا أمام الأسيرات ضعيفاً مهزوزاً، لا يقوى على كسر إرادتهم أو تفريق جمعهن. فما كان منه إلا أن رضخ لإرادتهن، وسلم بشروطهن، ووقف كسيراً أمامهن وهن يغلقن باب السجن وراءهن. وقد أوفين بالعهد، وثبتن على الموقف، حتى كلل الله جهودهن بالحرية، وأكرمهن بالتحرير. فألف تحيةٍ لَكُنَّ أيتها الأسيرات الباسلات. وإلى حريةٍ جديدةٍ كريمةٍ عزيزةٍ، نفرضها بعزمنا وصبرنا، وإرادتنا وصمودنا.
moustafa.leddawi@gmail.com