لم يكن علماً مشهوراً ذائع الصيت يعرفه كل الفلسطينيين ويحفظون اسمه ويرددونه، كما الكثير من أبناء هذه العائلة الكريمة، الشريفة الأصل النبيلة النسب، العميقة الجذور الواسعة الانتشار، العظيمة العطاء الصادقة الولاء، الكثيرة الرماد الوافرة الظلال، التي يتنافس أبناؤها في التضحية والفداء، وفي البذل والعطاء، وفي المقاومة والنضال، وفي العلم والثقافة، وفي الشعر والأدب، فقد كان في الظل رابضاً، وفي الخفاء متربصاً، وفي الليل عاملاً، لا تعنيه الأضواء ولا تشغله الشهرة، فكان مغموراً إلا من أهل بلدته، غير معروفٍ إلا في محيطه، وإن كان شقيق نائل البرغوثي، أحد أقدم جنرالات الصبر في السجون الإسرائيلية، أو والد الشهيد البطل ، الذي دَوَّخَ الإسرائيليين وأرعبهم، ووالد الأسير الأسد الهصور عاصم البرغوثي.
لكن وفاته المجلجلة، وجنازته المهيبة، والمشاركة الشعبية العامة، والتغطية الإعلامية الكبيرة التي حضي بها، والاهتمام الواسع الذي واكب مرضه ثم وفاته، أثبتت أنه كان علم الأعلام وبطل الأبطال، وسيد الرجال وفارس الفرسان، وأحد كبار قادة المقاومة ورجالها في الميدان، يعمل بليلٍ ويخطط بصمتٍ، وينفذ بيد القدر، وقد تفاجأ الأعداء قبل الأصدقاء بعلو قدره، وسمو مكانته، ورفعة شأنه، ورمزيته بين أهله، وقيمته في قومه، ولولا أنه كان مصاباً بـكورونا وعانى من مضاعفاتها، لظن البعض أن العدو عرف دوره فقتله، وأدرك مكانته فقرر تصفيته، وربما لو كان يعلم حقيقته ما كان تأخر في اغتياله، ولكن الله عز وجل طمس عيونهم وختم على قلوبهم وأعمى بصائرهم فلم يعرفوه.
إنه سيدي عمر، وحق لكل عمر أن يكون كابن الخطاب عمر. وهو الذي يشبهه في الشكل واللون والقامة والهيبة، وكالمختار عمر. وهو الذي يشبهه في القوة والمهابة والعزة والكرامة، رجلاً شجاعاً. جبلاً أشماً، وأسداً هصوراً، وفارساً جسوراً، ومقاتلاً مغوراً، ومقاوماً جباراً. وقائداً حراً، ومسلماً أصيلاً، وعربياً غيوراً، يحبه الناس وتعشقه النساء، ويهابه الخصوم. ويخافه الأعداء، ويستظل تحت سيفه المقاومون. ويأمن في كنفه المقاتلون، ويلجأ إليه المنحازون، فقد كان في المقاومة سابقهم. وفي مقدمتها أولهم، يحمل البندقية مثلهم، ويخطط للمقاومة معهم. إنه رجلٌ دونه الجبال تخر، وأمام قدميه المجدُ يركعُ، فقد سكنت قلبه المقاومة. وعمرت جنانه التضحيات، فاستحق هذه المكانة بجدارةٍ، ووصل إلى ذرى سنامها بالجهاد. فنالها بعزةٍ منتصب القامة. مرفوع الرأس، شامخ الجبين، مختالاً بين الأبطال، مزهواً بين الشهداء.
ما كان عمر البرغوثي حزبياً، ولا قيدته الأطر التنظيمية والولاءات السياسية، وما عمل لحزبه وتخلى عن غيره. وما امتنع عن تدريب وتأهيل من طلب، أو تمويل وتسليح من رغب. بل كان مقاوماً بحجم الوطن، يعمل لفلسطين ومن أجلها، فكان معسكر ذخائر المقاومة، ومحط آمال رجالها، ومستودع أسرارها، يلجأ إليه المقاومون من كل القوى. ويطمئن إليه النشطاء من كل الاتجاهات، وأثبت لهم أن الوطن للجميع، وأن المقاومة تتسع للكل، وسوح الجهاد وميادين القتال رحبة، تنادي كل القادرين على حمل السلاح والمقاومة.
لم يقعدْ عمر البرغوثي عن المقاومة شيءٌ، ولم تثبط عزيمته الصعابُ، ولم توهن قوته التحدياتُ، فقد أُسِرَ مراتٍ عديدة، وقضى في المعتقلات الإسرائيلية نصف عمره، وأعتقل والده وأمه، وحكم على ابنه عاصم بأربعة مؤبدات، واستشهد ولده صالح، وهدم بيته وضاعت أمواله، وضيق عليه ولوحق، واستدعي وحقق معه، ولكن ظهره لم ينكسر، وقامته لم تنحنِ، وصوته لم يخفت، واندفاعه لم يتراجع، وعزيمته رغم مر السنين لم تفتر، بل بقي فارساً يمتطي صهوة جواده، يرفع الراية ويحمل اللواء، ويكز على أسنانه بعناد، ويوكز جواده باستعجالٍ، وبعينين كعيني الصقر يتطلع إلى فلسطين كلها، يشير إليها بنفسه ويوصي بها الأجيال من بعده، تلك هي بلاده التي يؤمن بها وطناً محرراً كاملاً لا يشارك شعبه فيها أحدٌ.
لم يهزمْ أبو عاصف ولم تسكن ثورته العاصفة، وإن كان من على صهوة جواده قد ترجل، ومن بيننا قد غاب، فقد هزم بكبريائه إسرائيل، وفضح بصبره ممارساتها، وكشف بثباته عدوانها، وكسر بتضحياته جبروتها، واستعلى عليها يوم أن صدح بالأذان مكبراً الله أكبر، فوق ركام منزلي ولديه اللذين هدمهما الاحتلال.
ومن قبل انتصر عليها هو وشقيقه نائل وابن عمه فخري، عندما رفضوا استعطاف القضاة وطلب الرحمة من هيئة المحكمة. ورددوا شعارهم الذي تخلده بلدتهم كوبر «ما بنتحول ما بنتحول يا وطني المحتل». ولعلها اليوم تنظر إلى نفسها أمامه وهو الطود الشامخ، الرمز الكبير، القامة العالية، بذلةٍ وانكسارٍ، وجبنٍ صغار، وتوقن أن هزيمتها قادمة لا محالة. وزوالها قريب لا مناص.
على فراشه توفي عمر البرغوثي كسيف الله المسلول خالد بن الوليد. وما في عمره عامٌ بلا مقاومةٍ أو اعتقال. أو تسليحٍ وإعدادٍ، أو تعبئةٍ وتحريضٍ، فقد قضى من عمره ثلاثين عاماً في السجون والمعتقلات. صابراً محتسباً، ثابتاً صلباً، لا تلين له قناة ولا تضعف عنده عركية. وقضى نيفاً عنها في سوح المقاومة والجهاد، مدرباً ومنسقاً، ومخططاً وموجهاً، وراعياً ومراقباً، أدمى خلالها عيون العدو وأوجعهم، وأذاقهم والمقاومون الذين معه، مُرَّ الأسى وجزع الفقد، وألم الجرح وعاهة الإصابة، وما علم العدو بدوره إلا يوم وفاته، وما اكتشف خبرته إلا بعد رحيله. فرحمة الله عليه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحسبه شهيداً. وأن يجمعه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وأن تقر عينه بولده الشهيد صالح، في جنان الخلد وفردوسها الأعلى.
moustafa.leddawi@gmail.com