نون والقلم

نارام سرجون يكتب: السفينة الانتحارية ومحاولة اغتيال قناة السويس

لن تعرف الحكاية إذا عرفت بدايتها فقط أو نهايتها أو جزءا منها.. ومن يظن أن حكاية السفينة العالقة في قناة السويس عابرة فليعلم أنه لا يعلم.. فحكاية السفينة الانتحارية ايفرغرين التي انتحرت في وسط القناة – مثل أي انتحاري إرهابي يفجر حزامه الناسف لالحاق الأذى بخصومه – لتخريب فكرة قناة السويس.

يعود سرها إلى عام 1956 عندما انتحرت سفينة استشهادية لغاية أخرى يقودها الاستشهادي ضابط البحرية السوري المسيحي جول جمال في بورسعيد .. ذلك العمل الاستشهادي كان دفاعا عن قناة السويس المصرية إبان العدوان الثلاثي على مصر .. وكان ذلك إعلانا لإغلاق قناة السويس إلى إشعار آخر إلى أن تصبح مصرية بالكامل ..

في تلك اللحظة عام 56 ظهرت أسرار القناة .. فالقناة تبين أنها عزيزة على قلب بريطانيا وأنها إحدى أهم جواهر التاج البريطاني .. ولكن أخطر الأسرار ظهرت عندما تبين أن الجغرافيا هي التي تقرر ملكية الطرق الدولية .

في تلك اللحظة المصرية المصيرية الناصرية تنبه البريطانيون إلى حقيقة الجغرافيا وهي أن هذه القناة ليست في انكلترة بل في مصر .. ومن يملك الجغرافيا يملك القرار على الجغرافيا.. ولذلك فان البريطانيين لم يمانعوا في أن تقفل أو تقتل قناة السويس وتردم إذا لم تكن لبريطانيا أو فلتخلق قناة سويس بديلة أو استنساخ القناة في النقب الفلسطيني.

وهذا ما كان في صلب التخطيط الغربي.. لذلك ظهرت فجأة منذ الستينات مشاريع شق قناة بديلة من العقبة (إيلات) إلى البحر المتوسط عبر النقب في فلسطين المحتلة تحت رعاية إسرائيل ..

العالم الغربي لا يحب النوم في العسل كما بعض البسطاء من السياسيين في الشرق .. لأن قرار قتل قناة السويس ظهر ووضع أخرى تحت رعاية إسرائيل يعني أن القناة ستكون نقلت وكأنها صارت في بريطانيا .. لأن إسرائيل مربوطة بالسلاسل إلى الغرب ولا تقدر إلا أن تكون طوع بنان الغرب لحاجتها إليه .. فهي مخفر متقدم ونواطير من المستوطنين اليهود الذين يرتبط مصيرهم بجرة قلم من أوروبا.

وإذا فكرت إسرائيل في التمرد فإن الغرب سيتركها لمصيرها في هذا البحر العربي الهائل بل وسيوجهه لتحطيمها.. وإذا كان الرئيس الأمريكي يقول للملك السعودي أنك لن تبقى أسبوعين إذا تخلينا عن دعمك فإن نفس الكلام يقال لإسرائيل .. فهذه الإسرائيل ستقع في خمسة أيام إذا قرر الغرب تركها لمصيرها ..

هذه بداية الحكاية.. أي منذ لحظة تحرير القناة وظهور ضابط بحري انتحاري يحول سفينته إلى سفينة انتحارية وتغلق القناة إلى إشعار آخر.. ولكن ما بعد هذه البداية نصل إلى وسط الحكاية الذي يبدو مشطوبا وخفيا وجزءا لا يراه أحد ولا يلتفت إليه أحد بسبب زحمة الأحداث التي غطت بضجيجها على صوت الحكاية الحقيقية .. ففي وسط الحكاية حدثت بداية الانتقام من قناة السويس وبداية الجريمة لاغتيالها.. إلى أن نصل إلى نهاية القصة التي ظهرت منذ أشهر ..

مشكلة أي جريمة اغتيال أنها تحتاج تحضيرا .. وجريمة اغتيال قناة السويس والانتقام منها كانت تحتاج تحضيرا جيدا لمسرح واسع .. وتحضير المسرح يعني تدمير السيطرة المصرية على منظومة الفكر الناصري والقومي التي صنعت ظاهرة جول جمال المواطن المشرقي الذي يستميت من أجل الدفاع عن كل الشرق وهي الظاهرة التي صنعها زمن الضباط الأحرار والرومانسية الناصرية.. وتم كسر الرومانسية الناصرية عام 1967 لاحلال الحلم الساداتي محلها والذي هو باختصار النوم في العسل.

الحلم الساداتي كان يحلم بالرفاه ودولة اللاحرب ولذلك كان عليه تفكيك المنظومة الفكرية الناصرية القومية المشاغبة بطموحها بكل رومانسيتها والتخلص من تلك التركة في مصر وحول مصر .. وبناء منظومة كامب ديفيد .. ونجح الحلم الساداتي في استئصال النزعة العسكرية من نفوس المصريين بمعاهدة كامب ديفيد التي كانت مخدرا قويا فيما يتم انجاز العمل بصمت لتجريد مصر من كل أسلحتها التي كانت تحمي قناة السويس.. وأهم أسلحتها كان القومية العربية التي جعلت ضابطا سوريا مسيحيا يفجر نفسه في سفينة فرنسية (مسيحية) والذي كان يعني أن قناة السويس صارت محمية بـ 200 مليون عربي .. وهذا هو رعب الغرب الذي وجد نفسه أن الحلم الرومانسي المصري وضعه وجها لوجه مع كتلة 200 مليون عربي مستعدين للموت..

وبعد 12 سنة فقط من كامب ديفيد تم ضرب العراق حيث تدربت القوات الأمريكية في الصحراء المصرية بتسهيلات كامب ديفيد عبر كثير من المناورات على حروب الصحراء في ماسمي بسلسلة (مناورات النجم الساطع) والتي كانت تحاكي حربا في الصحراء وفيها عرفت مشاكل الحروب الحديثة في الصحراء وتم تجنبها كلها في حرب عاصفة الصحراء التي كانت تدريباتها تتم في صحراء مصر .. والمصريون لا يعرفون أنهم يحضرون مسرحا لقتل العراق ومن ثم أضعاف مصر واغتيال قناة السويس ونهر النيل ..

وبعد عشر سنوات أخرى تم الإجهاز على العراق نهائيا في احتلال مباشر .. فيما محبو منظومة كامب ديفيد في مصر ينامون في العسل ويسمع شخيرهم إلى المريخ وهم يحمدون الله أن السادات كان فطنا وذكيا أنه جنبهم هذه الصراعات والحروب .. فرغم كل ما قيل عن أسباب حرب العراق فإن هناك سببا لم يتم التركيز عليه وهو أن التجارة القادمة من الصين تفكر في طريق بري على طريق الحرير من إيران إلى العراق إلى سورية .. وهذه قد تكون قناة سويس برية ..

ولذلك وضع أميريكا داعش في وسط الطريق .. وكان المراد قطع الطريق البري .. ليس من أجل قناة السويس بل من أجل ألا تموت القناة البديلة الإسرائيلية التي صارت تتحضر بمشروع مدينة نيوم السعودي .. الذي لا يوجد أي سبب لبنائها إلا أنه ليخدم مشروعا إسرائيليا ما ..

بعد تدمير طريق الحرير بما يسمى (الثورة السورية) .. وميناء بيروت .. وتعطيل قناة السويس .. صار الحل الوحيد لتجارة آسيا والغرب في إسرائيل فقط .. فكل الطرق الدولية تمر من إسرائيل .. طريق حيفا – دبي البري .. وقناة إيلات -المتوسط .. وهذه الطرق كلها بيد الغرب طالما هي بيد إسرائيل حيث لا يوجد ناصر ولا رومانسية ناصرية .. والغرب موجود في الخليج المحتل والذي تم نشر جاليات غير عربية بشكل واسع فيه لإعلان هوية جديدة لا علاقة لها بمنظومة الناصريين والقوميين العروبيين الذين قد يهددون الطرق الدولية ..

من جديد سيخرج علينا أصحاب النوم في العسل ويسخرون من نظرية المؤامرة لأن وظيفتهم هي تطبيع المؤامرة .. أي جعل المنظر التآمري منظرا طبيعيا لا يد للإنسان فيه .. فهم يرون أن داعش ليست مؤامرة أمريكية لقطع التواصل الجغرافي وقاعدة التنف التي تجثم على الطريق الواصل من العراق إلى سورية ليست إلا بالصدفة .. والربيع العربي ليس مؤامرة بل بسبب توق الشعوب العربية إلى الكرامة والحرية .. وليس لأن الشعوب البسيطة صارت لها وظيفة تنفيذ المشاريع الغربية دون أن تدري .. والقذافي قتل بسبب غضب الجماهير وليس لأنه أراد تحقيق فكرة نكروما بالولايات المتحدة الإفريقية وصك عملة ذهبية لها ..

واليوم وبعد مرور 130 سنة على افتتاح قناة السويس يتقرر أن باخرة عملاقة تنفذ عملية انتحارية في قناة السويس .. لأن السفن تحركها الأمواج وليس الرياح .. فأين هي الأمواج في قناة السويس كي تجنح بها سفينة.. ولا يمكن أن تحرك الرياح هذا الجبل العملاق الذي طوله 400 متر ويحمل ما يعادل 100 ألف سيارة .. ليجنح بهذه الزاوية ما لم تكن عملية انتحارية للسفينة التي ارتطمت بالضفة الشرقية للقناة .. فما هذه الصدفة في أنها حدثت بعد تفجير ميناء بيروت وبعد تفعيل الاتفاق التجاري بين دبي وحيفا؟؟ وبعد تعطل طريق الحرير السوري؟؟

ماذا سيحل المصريون اليوم من مشاكل خلقها لهم الوهم الساداتي والحلم الساداتي الذي كان نوما في العسل؟؟ سد النهضة يسرق مياههم وقناة السويس تسرق منهم ..

النيل سرق في إثيوبيا .. وقناة النيل كثرت سكاكينها .. بين حلمين تصارعا .. بين سفينتين انتحاريتين .. سفينة قادها جول جمال الضابط البحري السوري من أجل قناة السويس في الحلم الرومانسي الناصري .. وسفينة انتحارية صنعها زمن الحلم والنوم في عسل كامب ديفيد .. سفينة نعلم أن من أرسلها هو نفسه من أرسل الانتحاريين إلى بغداد ودمشق وإلى أبراج نيويورك .. ونسف موكب الحريري .. ونسف ميناء بيروت .. ومن أراد أن يكسر الشرق .. ويقيد كل جرائمه ضد مجهول ..

يذكرني هذا الحدث بفيلم مصري لمحمود ياسين (بعنوان وقيدت ضد مجهول) كأنه نبوءة عن اليوم لنوستراداموس .. كان يلعب فيه دور شرطي بسيط للحراسة ولكن في كل حي يحرسه كانت تزداد السرقات فقرر رئيسه وضعه لحراسة الأهرامات .. فلا شيء يسرق هناك .. ولكن الهرم الأكبر يختفي ويسرق .. فيقرر رئيسه وضعه في مناوبة حراسة على كورنيش النيل .. فماذا سيسرق هناك ؟؟ ولكن ينتهي الفيلم بتلفون مفاجئ لرئيس الشرطة ليبلغه بأن نهر النيل سرق !! في رمزية عن سرقة رمزية مصر ..

 

–  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية 

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى