يخوض بنيامين نتنياهو انتخابات الكنسيت الرابعة والعشرين، المكررة للمرة الرابعة، وهو مدججٌ بإنجازات التطبيع واتفاقيات السلام الموقعة مع بعض الأنظمة العربية، التي اعترفت بكيانه وتبادلت معه السفارات، وعلى وقع التبشير باتفاقياتٍ جديدة مع دولٍ عربيةٍ أخرى بعيدة وقريبة، وعلى أمل عقد صفقاتٍ تجارية، وتنشيط الحركة السياحية، وخلق أجواء تطبيعية، وعلاقاتٍ إنسانية مع مواطني الدول العربية، بما يجعل كيانه أكثر أمناً واستقراراً، وأفضل اقتصاداً وأكثر رخاءً.
تسكن نتنياهو في معركته الانتخابية أحلامٌ ورديةٌ وأماني عسلية، أن يبقى على عرش رئاسة الحكومة ملكاً متوجاً، وزعيماً مخلداً لدى اليهود عامةً عبر التاريخ، فهو أطول رئيس حكومةٍ بقاءً في الحكم، وأعظمهم إنجازاً لدولة إسرائيل وشعبها، وأنجحهم في صناعة العلاقات وصناعة السلام وتحييد الأعداء، وأكثرهم اعتداداً بنفسه وغروراً بقدراته، ورغم أنه أكثر رئيس حكومةٍ جدلاً، وأسوأهم ملفاً، وأشهرهم كذباً، إلا أنه يبقى وفق مختلف استطلاعات الرأي الأكثر مقبوليةً لدى شعبه، والأنسب لرئاسة حكومته، والأقدر على تشكيل التحالفات وبناء التكتلات.
أحسن نتنياهو استخدام ما أنجزه خلال السنتين الأخيرتين في الدعاية الانتخابية لصالحه. ولم يكتف بتوظيف ما تحقق لصالحه. بل حمل مكبر الصوت وطاف على البلدات الإسرائيلية، وسار في الشوارع ودخل إلى الأسواق. والتقى بالمستوطنين في كل مكانٍ. مصطحباً معه زوجته وفريقه الانتخابي. وبشر «شعب إسرائيل» بالرخاء القادم، والاقتصاد المزدهر الذي سيشهده الكيان في ظل رئاسته للحكومة الجديدة. إذ أنه على موعدٍ مع ملياراتٍ من الدولارات. التي ستصب في خزينة الدولة على هيئة استثماراتٍ عربيةٍ جديدةٍ.
وبناءً على الاستثمارات الموعودة. فقد زف إلى مستوطنيه بشرى توزيع مئات الشواكل على جميع «مواطني الدولة»، ووعدهم بتخفيض الضرائب وتجميد الضريبة المضافة وغيرها، ليتسنى لهم الخروج من أزمة كورونا الاقتصادية، لكنه اشترط مِنَحَهُ وهداياه بالتصويت له ليبقى رئيساً للحكومة. فاستجداهم وتوسل إليها طالباً منهم الخروج إلى مراكز الاقتراع والتويت بكثافةٍ لحزبه. ليضمن الحصول على مقعدين إضافيين فقط، ويتحرر من قيود خصومه وشروط حلفائه. ويكون حراً في تشكيل الحكومة. فبدا أمامهم متسولاً، وكأنه في مزادٍ علني يستجدي الأصوات ويبحث عن المزيد، ولو كان ذلك عبر مغنيةٍ يزورها في بيتها. أو فنانةٍ يلتقط صورةً معها، أو مطعمٍ يتنقل بين رواده، أو زيارةٍ يجوب بها الشوارع ويستوقف المارة ويخاطبهم.
لم يكتفِ نتنياهو بمخاطبة المستوطنين اليهود، بل خاطب المواطنين الفلسطينيين أملاً في أصوات بعضهم، مستنداً إلى انجازات التطبيع القائمة والموعودة، فانطلق بوقاحةٍ غريبةٍ وصفاقةٍ عجيبةٍ يشجعهم ويحرضهم على كثافة التصويت لصالحه، لضمان فوز حزبه وتحسين حظوظه. ووعدهم بتأمين رحلات الحج بالطيران إلى «مكة» مباشرة، وزيادة حصتهم من الحجاج. وتسهيل سفرهم إلى الدول العربية بصورةٍ مباشرة. كما توجه إلى البدو الذين يعانون من سياسته، ويشكون من مخططاته، داعياً إياهم للتصويت لحزبه. واعداً إياهم بعدم الاعتداء على بلداتهم وهدمها. أو ترحيلهم وإخراجهم من تجمعاتهم السكنية.
ظن نتنياهو المزهو بجولاته والمغرور بوعوده والمعتد بقدراته. أنه بات أقرب إلى الفوز وحسم السباق لصالحه أكثر من الجولات السابقة. لكن الصاروخ الذي سقط في النقب أيقظه من سباته، وانتزعه من أحلامه. وأسقطه على الأرض من عليائه، ونبه جمهور الناخبين إلى فشله في تحقيق الأمن لهم. وعجزه عن مواجهة المقاومة الفلسطينية التي أقضت مضاجعهم وأعيته. وأضرت بهم وحيرته. فارتفعت أصوات الأحزاب المعارضة له تكشف سوأته، وتفضح عورته. وتسلط الضوء على عجزه وضعفه. وتتهمه بأنه يخاف من حماس ويذعن لها. ويخشى منها ويخضع لها. وهي تظن أنها أقوى منه وأقدر، وهي أحق بالأصوات منه وأجدر. وأنها تستطيع أن تخضع حماس وتقهرها. وتفكك بنيتها وتدمرها.
حرك صاروخ النقب شجون نتنياهو وأعاد إليه ذكريات صاروخ عسقلان، وتذكر يوم أن أرغم على قطع كلمته والنزول عن المنصة. والفرار من المكان خوفاً. أنه أصبح أضحوكةً بين الأحزاب، ومثار سخريةٍ وتهكمٍ على وسائل الإعلام. ومحل استخفافٍ وتندر بين الفلسطينيين. فأدرك بينما يحاول حراسه ومرافقوه إخراجه من القاعة. وتأمينه في المكان. أن ما أصابه يوم عسقلان سيصيبه اليوم لا محالة في يوم النقب. فالحالة نفسها والمقاومة ذاتها. والصاروخ واحدٌ لم تتغير منصته، ولم يتبدل هدفه. فقد كان هدف الأول إسقاطه. ويبدو أن الثاني نجح في تعريته، ودفع الناخبين للانفضاض من حوله وانتخاب غيره.
ساعاتٌ قليلةٌ تفصلنا عن النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الرابعة والعشرين. ورغم أن القراءات الأولية للنتائج تشير إلى أن حزب الليكود يتصدر الأحزاب. ويسبق أولها بأكثر من عشرة مقاعد. إلا أننا سنعرف حتماً هل أن سراب التطبيع مع بعض الأنظمة العربية قد نجح في تثبيت نتنياهو وتقريبه من حسم المعركة لصالحه. أم أن صاروخ النقب قد نقب قبره وحسم أمره. وعجل في خاتمته وأنهى مستقبله. وأنه وإن كان حزبه هو الأوفر حظاً في المقاعد البرلمانية، إلا أنه الأتعس حظاً في تشكيل الحكومة. والأسوأ خاتمةً بين رؤسائها. وسيثبت الصاروخ أنه أصدق إنباءً من التطبيع. وفي حده الحد بين الجد واللعب.
moustafa.leddawi@gmail.com