لأول مرة في التاريخ المعاصر يجد الإنسان السلامة في التباعد لا في التقارب والتجمع. لأول مرة تمتد يد الضرورة إلى وجوهنا لتغطي ابتساماتنا كمامات نرتديها بعناية الخائفين من عدو يترصدنا ولا نراه. ولأول مرة نكتشف أن لا بد لنا من عالم افتراضي يحمينا من قسوة العالم المادي. لقد كانت الأزمة التي عبرناها دليلًا واضحًا أن أمل البشرية قد يتمثل ببساطة في حواسيب تنقل أفكارنا عبر موصلات فائقة السرعة، حواسيب تدير الفراغ الهائل الذي خلفته القوى العاملة التي ركنت إلى أمان بيوتها، حواسيب يطل منها معلمو أطفالنا حتى نضمن حمياتهم من فيروس مجهول وجهل قد يحرمهم أهم ما في الطفولة، التعلم والدهشة والابتكار.
إن أكثر ما تعلمناه خلال سنتين عشناهما يتمثل في حقيقة بسيطة جدًا وهامةٍ للغاية. أن الضمانة الوحيدة لاستدامة عالمنا ولبقاء الإنسان تتجلى في قدرتنا على التواصل. التواصل فيما بيننا، التواصل مع آلاتنا وأدواتنا. وتواصل أدواتنا مع بعضها البعض في غيابنا. لقد كان هذا التواصل وسيلتنا الوحيدة للتأقلم مع الوباء الذي عصف بقواعد عالمنا كما نعرفه. وليس أقل من أن يكون الفرصة الأهم التي يجب أن نستفيد منها في عالم ما بعد الوباء.
ولا شك أننا نقف اليوم على أعتاب مرحلة تاريخية تشكل فرصة للانتقال بالبشرية إلى المستقبل. حيث ساهم التطور الكبير في الصناعة والتكنولوجيا بفتح آفاق جديدة مكنت البشرية من التقدم الهائل خلال فترة زمنية غير مسبوقة. فيما يدل على بداية لثورة صناعية ستعيد صياغة الاقتصاد العالمي.
فإذا ما درسنا الثورات الصناعية الثلاث السابقة نجد أن تأثيرها كان مباشرًا على تعزيز الإنتاج. أما اليوم. ومع بدايات الثورة الصناعية الرابعة التي تعتمد بشكل أساسي على التقنيات الرقمية. بما في ذلك الذكاء الاصطناعي. وإنترنت الأشياء. والحوسبة السحابية، وسلاسل الكتل (البلوك تشين)، وشبكات الجيل الخامس، فإننا نشهد بداية تغير جذري سيطال كافة القطاعات والاقتصادات والمجتمعات. ليعيد صياغة أساليب الحياة. من التنقل والتمويل وحتى الغذاء والطاقة مرورًا بالتعليم والصحة.
ومن الواضح أن تكريس القدرة على التواصل عبر الرقمنة سيساهم ليس في تعزيز الإنتاج فحسب، بل إنه سيحرر المنظمات والاقتصادات والأفراد من القيود التي فرضتها النظم الاقتصادية القديمة، ويمهد الطريق نحو مستقبل جديد تختلف معالمه عن الحاضر الذي نعيشه اليوم، حيث يؤدي التبني المتزايد لتقنيات الثورة الصناعية الرابعة إلى إعادة صياغة أنماط حياتنا، وأساليب التعلم والتعليم، وأنماط العمل، وعادات التسوق لدى الأفراد وعلاقات الشركات ببعضها البعض ضمن سلاسل القيمة العالمية.
ويتساءل المهتمون بالشأن العالمي اليوم، أين تنطلق رحلة الإنسانية إلى عالم المستقبل؟ السؤال الذي يحاول قراءة المشهد العالمي في أزمة الوباء، محاولًا استنباط أهم ملامح السنوات المقبلة. ولا شك أن الإجابة تنحصر في الدول التي استطاعت إدارة الأزمة بنجاح، بل التي استطاعت تجاوز التحديات وتحويلها إلى فرص للنمو والإنجاز، ليس لشعوبها فحسب بل لشعوب العالم أجمع. الإجابة ببساطة شديدة هي أن المستقبل ينطلق من دول مثل دولة الإمارات.
فقد استطاعت دولة الإمارات أن تكرس موقعها على المستوى العالمي كوجهة رائدة لإدارة الأزمات. وتمكنت من مواصلة نشاطاتها الاقتصادية وضمان صحة الكوادر البشرية في الوقت ذاته، لتبرز الدولة من غبار معركتنا مع الوباء قوة إقليمية وعالمية صاعدة. إن دولة الإمارات التي استطاعت أن تتبوأ المرتبة الأولى عالميًّا من حيث عدد الفحوص المختبرية لاكتشاف الفيروس، والمرتبة الأولى عربيًا والثانية عالميًا في التطعيم ضد كورونا. بل وكانت في الوقت الذي انشغل فيه العالم بإدارة الوباء أول دولة عربية تنضم إلى سباق الفضاء العالمي وتطلق مسبارًا إلى المريخ، هي دولة تستحق بالفعل أن تكون محطة انطلاق البشرية نحو المستقبل.
لم تكن هذه القدرة الفريدة في إدارة الأزمة وليدة اليوم، فمنذ تأسيسها قبل 50 عامًا. سعت دولة الإمارات إلى بناء قطاع تكنولوجي وصناعي متقدم. حيث يساهم القطاع الصناعي اليوم بنحو ثمانية في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، مما يجعلها نموذجًا للدول التي تتطلع إلى تحقيق نهضتها التنموية. وعلى مدار الخمسين عامًا القادمة. وفيما تستعد الدولة لعصر ما بعد النفط من خلال تنويع الاقتصاد بالاعتماد على المعرفة والابتكار المستدام.
فإن تطوير قطاع صناعي يوظف تقنيات الثورة الصناعية الرابعة سيساهم في تحقيق هذه الأهداف. ولهذا السبب وقع اختيار القمة العالمية للصناعة والتصنيع على إكسبو دبي كموقع لعقد الدورة الرابعة من القمة. وقد ساهم اعتماد استراتيجية الثورة الصناعية الرابعة، وتخصيص وزارة للذكاء الاصطناعي في تعزيز مكانة الدولة كواحدة من أبرز الوجهات العالمية الجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة في تقنيات الرقمنة. ولا يخفى على المراقب التقدم الكبير الذي استطاعت دولة الإمارات تحقيقه في العديد من القطاعات التقنية المتقدمة مثل صناعة الطيران، والصناعات العسكرية. والتعدين. والطاقة المتجددة، وقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وجميعها قطاعات تمتلك الكثير من فرص النمو المستقبلية.
وبدورها وفرت القمة العالمية للصناعة والتصنيع، المنصة التي انطلقت من عاصمة دولة الإمارات أبوظبي لأول مرة في العام 2017 إلى العالمية، منصة مثالية لرؤساء الدول والوزراء ونخبة من كبار الرؤساء التنفيذيين والتقنيين والأكاديميين وقادة القطاع الصناعي، لمشاركة معارفهم وخبراتهم حول سبل تطوير القطاع الصناعي والتكنولوجي، وشجعت على إيجاد الحلول التي من شأنها تحقيق تنمية صناعية شاملة ومستدامة. وستعمل القمة في دورتها الرابعة في دبي على تكريس مفهوم التواصل ليتحول إلى حجر الزاوية في نظرتنا إلى المستقبل، وليشكل الأساس الذي تبنى عليه ملامح مستقبل الصناعة العالمية.