نون والقلم

د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب: الحكمُ بالمراسيمِ تهميشٌ للمؤسساتِ وتأسيسٌ للديكتاتورية

تتميز الأنظمة الرئاسية في العالم بالاعتماد على المراسيم والأوامر التنفيذية في تسيير أعمالها، ولكنها تحترم المؤسسات وتلتزم الصلاحيات، وتحرص على الفصل بين السلطات، وتقف على مسافةٍ واحدةٍ من الهيئات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولا تتدخل في عمل أي منها، إلا بالقدر الذي يسمح به الدستور وتجيزه الأنظمة الداخلية المعمول بها في البلاد.

وعلى الرغم من الهوامش التي تمنحها الدساتير للرؤساء، إلا أن أغلب النظم الرئاسية الديمقراطية، تلجأ إلى مؤسسات الدولة لتأخذ دورها في التشريع وتنظيم مناحي الحياة المختلفة، خاصةً فيما يتعلق بالسكان وينعكس على حياتهم الاجتماعية والاقتصادية.

علماً أن هذا النظام ينتابه عورٌ شديدٌ ويتعرض لأخطاء دائمة، ويعرض الرئيس لنقمة الشعب وغضبه، ويحمله المسؤولية الكاملة عن قراراته، التي قد تكون جائرة أحياناً وغير عادلة، بسبب عجز الهيئات المنظمة لمسودة المراسيم والأوامر عن الإحاطة الشاملة بأبعاد القرار على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية خاصةً، الأمر الذي يسبب حالة من الفوضى والاحتقان، التي قد تتطور إلى الثورة والاضطراب، تماماً كما هو حادثٌ في العديد من الدول العربية، التي يطغى فيها الحاكم على البرلمانات، التي باتت تمارس أدواراً هامشية ومهاماً شكلية بعيداً عن التشريع الأصيل الذي هو مهمتها الأولى إلى جانب الرقابة والمحاسبة.

يحق للبرلمانات خلال فترةٍ زمنيةٍ معينةٍ يحددها القانون، في حال خالفت قرارات الرئيس وأوامره أنظمة البلاد وقوانينها، الطعن فيها أو إبطالها، وإلزام الرئيس بالتراجع عنها وإلغائها، كما تستطيع الهيئات والمؤسسات والأفراد الطعن بها لدى مجالس شورى الدولة، أو المجالس الدستورية، أو محاكم الدولة العليا، ولا تنتهك سيادة الرئيس ولا سمو قرارته في حال تراجعه عنها، وهو الأمر الذي يميز الأنظمة الديمقراطية عن غيرها من الأنظمة الشمولية القمعية البوليسية الديكتاتورية، التي تقوم على الفرد وتعتمد على شخص الرئيس فقط، وتصادر دور المؤسسات الشورية والمجالس النيابية، وتعطل صلاحياتها بقراراتٍ رئاسية تفتقر إلى القانون وتعوزها الشرعية، لكنها تمضي في ظل غياب المؤسسات التشريعية بقوة الأمر الواقع.

أما فيما يتعلق بنا نحن الفلسطينيين، فقد أصابنا هذا العور، وحلت بنا نكبة الأنظمة الشمولية الديكتاتورية، وخضعنا لأحكام المراسيم ولعنة القرارات الرئاسية، فصادر الرئيس الفلسطيني على مدى سنواتٍ طويلة صلاحيات المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي حله بقرارٍ رئاسيٍ، اعتمد فيه على رأي المجلس الدستوري الذي عينه بقرارٍ رئاسيٍ أيضاً، علماً أنه فقد الصفة والصلاحيات الرئاسية بانتهاء مهمته الدستورية، وبالتالي فقدت مراسيمه وأوامر قوة القانون، وأصبحت باطلة كونها قد صدرت عن شخصٍ غير ذي صفةٍ، حيث لم يبق في فلسطين إلا مؤسسة المجلس التشريعي، الذي تستمر مهامه حتى انتخاب الجديد وحلوله مكانه، إلا أنه واعتماداً على قوة الأمر الواقع، فقد نجح الرئيس في جعل قراراته نافذة ومراسيمه سارية، خاصةً أن سلطات الاحتلال قد ساعدته في تنفيذ قراراته من خلال عمليات الاعتقال المستمرة التي طالت العشرات من أعضاء المجلس التشريعي.

على ذات النسق الشمولي ووفقاً لمناهج الأنظمة الرئاسية القمعية. فقد توالت المراسيم واستمرت سياسة الحكم بالأوامر الرئاسية. التي سكت عنها الشعب وخضع لها. لكن آخرها التي جاءت في ظل مساعي الاتفاق وجهود التسوية. لا يمكن السكوت عنها والقبول بها، اللهم إلا إذا جاءت بالتوافق والمشورة، وبعد قبول القوى والفصائل الفلسطينية بها، إذ لا يجوز أن تبنى تسوية على قراراتٍ فردية، ولا أن يؤسس لحلولٍ على مراسيم أحادية، لا يكون فيها دورٌ للأطراف الأخرى المشكلة للمعادلة سوى الإطلاع عليها والالتزام بها.

أخص هنا بالنقد الأصولي والاعتراض القانوني على مراسيم تسيير العملية الانتخابية بمستوياتها الثلاثة، التي يجب أن تكون كلها وفق التوافق العام، وبما ينسجم مع القوانين المرعية الإجراء في الأنظمة الديمقراطية، ومنها تشكيل محكمة الانتخابات وتحديد صلاحياتها، والتعديلات التي أجريت على النظام الأساسي وفق رؤية أحادية، راعت صالح فريق وتجنت على وجهات نظر الآخرين، وتلك التي يجب إجراؤها على القانون الأساسي ولكنها تعطلت، لضمان سير العملية الانتخابية سيراً قانونياً عادلاً، ومنها تخفيض سن التصويت وسن الترشيح، وحق المواطنين أينما كانوا من ممارسة حقوقهم الوطنية المشروعة في التصويت الحر وغيرها.

لم تتوقف المراسيم الرئاسية الفلسطينية طيلة السنوات الخمسة عشر الماضية، ولكن واقع الانقسام البغيض وحقيقة الاحتلال الإسرائيلي الماثلة في الضفة الغربية، جعلت المواطنين يسكتون عن سلبية القرارات وسوء مقاصدها، وعور تشريعها وخطأ الاعتماد عليها، إذ يرصد المراقبون أن بعض المراسيم قد صدرت استرضاءً لأفراد، أو محاباةً لفريق، ومنها ما يعود بالنفع الشخصي ويضر بالصالح العام.

لعل القرارات الأخيرة المتعلقة بتعليق الانتخابات النقابية المختلفة، وتنظيم عمل مؤسسات المجتمع المدني. تشير بقوة إلى أنها قرارات سياسية أكثر منها قرارات تنظيمية. فقد صدرت في وقتٍ حرجٍ، وأخذت صفة الاستعجال. وحصلت على صلاحيات التنفيذ الفوري، وهو الأمر الذي لا يوافق عليه الشعب ولا يقبل به في حال الرجوع إليه. أو استشارة ممثليه المعطل دورهم والمصادر قرارهم.

كان ينبغي على الرئيس الفلسطيني في هذه المرحلة التي تبدو أنها مرحلة استثنائية. التشاور مع كل القوى الفلسطينية والاتفاق معها على إصدار أوامر توافقية. بحيث تتسم بأنها لمرة واحدةٍ فقط. وتسقط تلقائياً بمجرد تشكيل المجلس التشريعي والتئامه. حيث يصبح حينها سيد نفسه. ومن حقه إعادة النظر في كل القرارات التنفيذية. والمراسيم والأوامر الرئاسية. التي صدرت خلال فترة تعطل المجلس التشريعي «المنحل» عن تنفيذ مهامه بسبب تعذر لقائه. وإلا فإن السكوت عن هذه المراسيم يعتبر جريمة قانونية. وسابقة تشريعية تضر بالشعب الفلسطيني. وتعرض مصالحه لخطر الطغمة الحاكمة أياً كانت هويتها وانتماؤها. فسياسة المراسيم سياسةٌ هوائية مزاجية لا عدل فيها ولا إنصاف. ولا تحقق العدالة ولا ترقى إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية التي يجب أن يتمتع بها الرئيس.

 moustafa.leddawi@gmail.com

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

–  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى