ستبقى ثورة 1919 هي أم الثورات، وأهمها في تاريخ مصر، لأنها الثورة التي قادت البلاد للأمام، وكانت مخرجاتها تقدمًا وحضارة.
قيمة ثورة 1919 ليست في مظاهراتها العارمة، وليست في الضغوط السياسية على الإنجليز، أو قدرتها على تقليم أظافر الملك، في مواجهة الشعب، ولكن قيمتها الحقيقية، هي أن الأمة أصبحت مصدرًا للسلطات.
في أبريل 1922 تم تشكيل لجنة لوضع الدستور وقانون الانتخاب برئاسة حسين رشدي باشا وكان أحمد حشمت باشا نائبًا له، بالإضافة إلى 30 عضوًا ولذلك عرفت باسم «لجنة الثلاثين».
ضمت اللجنة مفكرين وأدباء ورجال قانون ورجال مال وأعمال وأعيانًا ورجال دين وتجارًا وساسة وعلماء وامتنع حزب الوفد والحزب الوطني عن المشاركة فيها، وقد وصف الزعيم سعد زغلول، الذي كان وقتها في المنفى، هذه اللجنة بأنها «لجنة الأشقياء» لأنه طالب بأن يضع الدستور جمعية وطنية تأسيسية تمثل الأمة لا لجنة تؤلفها الحكومة.
وكان اعتراض سعد زغلول مستندًا إلى مبدأ لا يقلل من أعضاء التأسيسية التي ضمت وقتها أسماء لامعة هي: يوسف سابا باشا وأحمد طلعت باشا ومحمد توفيق باشا وعبدالفتاح يحيى باشا والسيد عبدالحميد البكرى والشيخ محمد نجيب والأنبا يؤانس وقليني فهمي باشا وإسماعيل أباظة باشا ومنصور يوسف باشا ويوسف أصلان قطاوي وإبراهيم أبورحاب باشا وعلي المنزلاوي بك وعبداللطيف المكباتي بك ومحمد علي علوبة بك وزكريا نامق بك وإبراهيم الهلباوي بك وعبدالعزيز فهمي بك ومحمود أبوالنصر بك والشيخ محمد خيرت راضي بك وحسن عبدالرازق باشا وعبدالقادر الجمال باشا وصالح لملوم باشا وإلياس عوض وعلي ماهر بك وتوفيق دوس بك وعبدالحميد مصطفى بك وحافظ حسن باشا وعبدالحميد بدوي بك.
ورغم رفض سعد هذه اللجنة كان أول المدافعين عن الدستور في مواجهة الطغيان والاستبداد.. فقد جاء دستورًا معبرًا عن كل الأمة وليس دستورًا فئويًا أو دينيًا أو حزبيًا.
لقد كان موقف سعد نابعًا من مبدأ رفضه لاختيار الحكومة لأعضاء اللجنة.. وقاد ثورة ثانية لتصحيح الأوضاع المقلوبة.. رغم أنه قاد ثورة تنظر للأمام فصنعت مرحلة ليبرالية أفرزت أبرز رواد الفكر والأدب والفن والاقتصاد والسياسة.
من أهم انجازات ثورة 1919 إنتاجها وولادتها لشخصية تاريخية لا تتكرر، هي شخصية الزعيم الجليل، زعيم الأمة، سيد الناس مصطفى النحاس.
سيرة مصطفى النحاس تستحق أن يعرفها الناس لأنها تمثل قصة رجل وهب حياته لوطنه بلا ملل. واجه صعوبات في حياته ولم ينحنِ يومًا أمام طغيان القوة الباطشة ولم يتراجع أمام طوفان السلطة. لتبقى سيرته نقية لم يلوثها فساد حتى أنه مات عام 1965 وهو لا يملك ثمن الدواء.
وكان رأى سعد زغلول في النحاس غريبًا جدًا.. فقد كان يسميه «سيد الناس» وقال عنه «سريع الانفعال ولكنه لا يتغير بتغير الأحوال، وطني مخلص.. وهو فقير مفلس، ذكي غاية الذكاء… وفي كل الوفاء، وله في نفسى مكان خاص».
ومن أهم نتاج ثورة 1919 هو حزب الوفد نفسه، الذي ترك تاريخًا ناصعًا وقيادات تتوارث إدارته بحنكة وحكمة، أهمهم هو فؤاد سراج الدين.
يحكى أن الرئيس الراحل أنور السادات انزعج جدًا من إعلان فؤاد سراج الدين إعادة الحزب إلى الحياة، فاستدعى ممدوح سالم رئيس وزرائه وقتها ووزير الداخلية الأسبق، وسأله: أيه رأيك في حكاية إعادة «سراج الدين» للوفد؟، فرد عليه ممدوح سالم: اللي بيموت ما بيرجعش ياريس.. فقال «السادات»: بس فؤاد سراج الدين مش سهل يا «ممدوح».. فرد عليه «سالم»: ما تقلقش يا ريس. فقال «السادات»: لأ يا «ممدوح» أنا قلقان علشان كده لازم نمنع الحزب ده من الخروج ونهتم بتنفيذ المرسوم الخاص بعدم جواز عودة الأحزاب اللي كانت موجودة قبل 1952. وبكده نمنع الحكاية دي خالص.
وفعلًا ذهب إبراهيم باشا فرج، سكرتير عام الوفد، وقتها إلى لجنة شئون الأحزاب لمعرفة سبب رفض تكوين الحزب فقالوا له: «أنتم من الأحزاب القديمة التي لا يجوز عودتها.. شوفوا لكم اسم تاني» فاتصل إبراهيم فرج بفؤاد سراج الدين ليخبره بسبب رفض اللجنة للحزب فرد عليه فؤاد سراج الدين: بسيطة.. قل لهم عندنا اسم تاني.. فانزعج إبراهيم فرج وقال له: إزاى يا باشا؟ إحنا لا يمكن نتنازل عن اسم الوفد.. فقال له «سراج الدين»: يا إبراهيم باشا.. أصبر عليا.. الاسم التاني هو «الوفد الجديد»!
وفعلًا كان مخرجًا عبقريًا للحفاظ على اسم الوفد الذي أراد «السادات» محوه من الوجود..وإذا لم يفعل سراج الدين سوى إعادة الوفد للحياة السياسية لمنحناه لقب الزعيم أيضًا.. لأن عودة الوفد كانت معجزة لا يعرف صعوبة تحقيقها إلا من حضرها.
رحم الله الزعماء.. صانعي أم الثورات وأبناءها المخلصين.
tarektohamy@alwafd.org