تعيش إسرائيل هذه الأيام أسوأ تحدياتها وأدق اختباراتها. ففى الوقت الذى تؤكد فيه أنها أقوى قوة إقليمية فى الشرق الأوسط، وأنها من يجب أن تتولى قيادة شأن هذا الإقليم وتريد من الجميع، سواء كانوا من هذا الإقليم أو من خارجه أن يتعاملوا معها باعتبارها «القوة الإقليمية المهيمنة»، تجد نفسها عاجزة تماماً عن الدفاع عن نفسها بمعزل عن الحماية الأمريكية. ربما لا تكون هذه هى المرة الأولى التى تواجه فيها إسرائيل مثل هذا الاختبار، لكن ما تعيشه الآن إسرائيل من أزمة حقيقية مع إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن بسبب القرار الذى اتخذته هذه الإدارة بالعودة الأمريكية إلى الاتفاق النووى الموقع عام 2015 والذى انسحبت منه الإدارة الأمريكية السابقة عام 2018.
تجاوزت قدرة قادة الكيان الإسرائيلى على الاستمرار فى إدعاء امتلاك القدرة والإرادة لتدمير القدرات النووية الإيرانية منفردة دون مشاركة أمريكية، وربما تكون قد تجاوزت أيضاً القدرة على إقناع الولايات المتحدة بالعودة إلى الاتفاق النووى، بعد أن أدركت أن هذه العودة أضحت مؤكدة ولم يعد يحول دون تحقيقها سوى بعض التفاصيل الإجرائية حول كيفية تنظيم عودة أمريكية للاتفاق تتزامن مع عدول إيرانى عن كل التجاوزات والإجراءات التى اتخذها الإيرانيون بخصوص هذا الاتفاق .
يواجه الإسرائيليون الآن الاختبار الصعب: هل يملكون القدرة المنفردة لمنع إيران من امتلاك قدرات نووية. أى الأخذ بقرار «الاعتماد على النفس»؟. أم أنهم مضطرون للقبول بما تريده الإدارة الأمريكية وحلفاءها الأوروبيين من تعامل مع إيران لحل النزاع حول الاتفاق النووى الذى تراه هذه الإدارة وحلفاءها «الطريق الأفضل لضبط القدرات النووية الإيرانية ومنع إيران من التحول إلى قوة نووية عسكرية»؟.
مشكلة إسرائيل الأمنية. أو جوهر مأزقها الأمنى أنها لا تقبل بامتلاك إيران أو أى دولة فى إقليم الشرق الأوسط قدرات نووية عسكرية. أو حتى سلمية. لإدراكها أن القدرات النووية السلمية يمكن أن تتحول ، بقرار سياسى، إلى قدرات نووية عسكرية. وهذا ما ترفضه إسرائيل بالمطلق لأنها تراهن على أن تفردها بامتلاك السلاح النووى يؤمن وجودها. وأن هذا الوجود والبقاء الذى تحاصره التهديدات من كل جهة يعتمد بدرجة كبيرة على ما يحققه تفردها بامتلاك السلاح النووى من «ردع» لإرادات الدول الأخرى. وإجبارها على التحول التدريجى إلى القبول الاضطرارى بخيار «الاستسلام» بالشروط التى تريدها إسرائيل.
لذلك ترفض إسرائيل الاتفاق النووى الذى وقعته القوى الدولية الكبرى عام 2015 مع إيران. ممثلة فى ما يعرف بـ«مجموعة دول 5+1» (الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية فى مجلس الأمن + ألمانيا). لسبب أساسى أنه يعطى لإيران الحق والقدرة فى امتلاك قدرات نووية سلمية. تخشى إسرائيل أن تتحول هذه القدرات، فى لحظة، إلى قدرات نووية عسكرية. عندها سيتحقق «توازن الردع النووى» إقليمياً بين إسرائيل وإيران. وعندها ستجد إسرائيل نفسها أمام خطوط حمراء لا تستطيع أن تتجاوزها فى صراعاتها الإقليمية وفى سياستها التوسعية .
كيف ستواجه إسرائيل هذا المأزق بين خيارين أحلاهما شديد المرارة: أن تتمرد على السياسة الأمريكية. وتقرر الأخذ بخيار «الاعتماد على النفس» للقضاء على الخطر النووى الإيرانى. أم تنساق وراء الموقف الأمريكى- الأوروبى الذى بات قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى توافق يحقق العودة الأمريكية إلى الاتفاق النووى بالشروط الإيرانية. أى إلغاء العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران فى تزامن مع عودة إيران إلى أصل الاتفاق النووى دون تجاوزات لأى من بنوده ؟
السؤال. على ما أعتقد كان محور الاجتماع عال المستوى الذى عقده نتنياهو يوم الاثنين (22/2/2021) بحضور كبار القادة السياسيين والعسكريين لاطلاعهم على مضمون الاتصال الهاتفى الذى أجراه معه الرئيس الأمريكى جو بايدن قبل أيام (وبالتحديد يوم 17/2/2021). ولتقديم تقدير إستراتيجى لما يجب أن تلتزم به السياسة الإسرائيلية لمواجهة ما يصفه بالخطر النووى الإيرانى. لم يقدم نتيناهو على عقد هذا الاجتماع إلا بعد أن وصل إلى قناعة بأن «قطار المفاوضات مع إيران انطلق ولن يتوقف فى إسرائيل».
على حد توصيف المستشرق الإسرائيلى تسفى برئيل فى تحليل نشره يوم الأحد (21/2/2021). أى قبل يوم واحد من انعقاد هذا الاجتماع. الذى جاءت محصلته شديدة الإحباط حيث شهد انقساماً بين أغلبية تقول إن «سلاحاً نووياً بيد إيران هو تهديد وجودى لا يمكن لإسرائيل التسليم به». فى إشارة إلى أن إسرائيل ما زالت تتبنى الخيار العسكرى للتخلص من التهديد الوجودى. الذى يشكله البرنامج النووى الإيرانى. لكن هؤلاء لم يستطيعوا إخفاء حسرة من عودة أمريكية باتت حتمية للاتفاق النووى.
ولم يستطيعوا إخفاء خشية من أن تبقى إسرائيل تواجه هذا التحدى وحدها. فى مقابل هؤلاء كانت هناك أقلية رأت أن العودة الأمريكية إلى «الاتفاق النووى السيئ» من عام 2015. أفضل من استمرار الوضع الذى ساد منذ انسحاب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018. حيث جعل هذا الانسحاب إيران أقرب إلى امتلاك القدرة على صنع السلاح النووى.
انقسام حقيقى يؤكد العجز الإسرائيلى فى مواصلة الزعم بامتلاك القدرة المنفردة على تدمير القدرات النووية الإيرانية. عجز عبر عنه بنيامين نتنياهو فى اليوم التالى لهذا الاجتماع المهم. حيث كتب مجموعة «تغريدات» على «تويتر» (23/2/2021). طغى عليها شعور اليأس والإحباط لدرجة جعلته أقرب إلى أن يرفع رأسه إلى السماء والدعاء إلى الرب «أن يخسف الأرض بإيران».
فى هذه التغريدات تخلى نتنياهو تماماً عن كل أصول الفكر الإستراتيجى. وأخذ يخاطب الشعب الإيرانى. ويذكره بـ «الماضى التليد» للتاريخ اليهودى مع «الفرس المستبدين». مهم جداً أن نعيد قراءة هذا الخطاب الجديد لزعيم يروج لنفسه بأنه «القوة المهيمنة إقليمياً». أو «زعيم الشرق الأوسط».
فى هذه التغريدات كتب نتنياهو مخاطباً الإيرانيين: «أقول للذين يلتمسون القضاء علينا، بمعنى إيران وأتباعها فى الشرق الأوسط، لن نسمح لنظامكم المتطرف والعدوانى بامتلاك الأسلحة النووية.. لم نقطع مشواراً استغرق آلاف السنين عبر الأجيال المتعاقبة للعودة إلى أرض إسرائيل. لنسمح لنظام الملالى الواهم بأن يقضى على قصة نهضة الشعب اليهودى». وأضاف «بغض النظر عما إذا كان هناك اتفاق من عدمه. فإننا سنبذل كل ما بوسعنا من جهود فى سبيل منع تزويدكم بأسلحة نووية».
المرشد الإيرانى الأعلى السيد على خامنئى رد على هذه «التغريدات» قائلاً: «هذا المهرج الصهيونى يصرح دائماً بأنه لن يسمح لإيران بامتلاك سلاح نووى.. يجب العلم أنه إذا كانت إيران تريد امتلاك الأسلحة النووية فلا يستطيع هو ولا من هم أكبر منه أن يمنعها».
رد إيرانى فاقم المأزق الإيرانى. ما دفع نتنياهو للعودة مجدداً إلى خيار إحراج الإدارة الأمريكية عبر تصعيد التهديد باستخدام الخيار العسكرى ضد إيران فبعد يومين فقط من «تغريداته» المحبطة تلك كشف رئيس الحكومة الإسرائيلية يوم الخميس (25/2/2021) أنه أبلغ الرئيس الأمريكى جو بايدن عزمه على منع إيران من امتلاك سلاح نووى. وقال فى مقابلة مع «القناة » العبرية: «أبلغت بايدن بأننى سأمنع إيران من حيازة سلاح نووى باتفاق أو بدونه. ونحن لن نترك أمن إسرائيل فى يد أحد».
كلام يفهم منه أنه، فى لحظة الخطر، سيلجأ إلى خيار الاعتماد على النفس. أى دون دعم أمريكى، لكنه كعادته تراجع. وفى اللحظة ذاتها عندما اكمل كلامه بأن شدد فى كلامه مع بايدن على أن «الشيئين اللذين سيبطئان إيران من التقدم إلى الأسلحة النووية هما: تهديد عسكرى موثوق به وعقوبات صارمة». رغم علمه بأن هذين الشيئين بيد أمريكا وليسا بيد إسرائيل وهنا يتفاقم المأزق التاريخى الإسرائيلى .