نون والقلم

معن بشور يكتب: في الذكرى 103 لميلاده.. ناصر والدوائر الثلاث

مع كل مناسبة متصلة بالزعيم الخالد الذكر جمال عبد الناصر، شخصية أو عامة،  تدبج المقالات وتلقى الخطب، وتكتب الدراسات في انجازات القائد الكبير، وأحياناً في اخفاقاته، لكن قليلة هي تلك المقالات والكلمات والأبحاث التي تركز على الأسباب الجوهرية في نجاح جمال عبد الناصر في أن ينتزع هذه المكانة لدى أبناء شعبه وأمته وأحرار العالم رغم مضي أكثر من خمسين عاماً مضت على رحيله المبكر في 28-9- 1970.

كان للرجل رؤية استراتيجية فسرت العديد من نجاحاته، بل أعطت لتجربته التحررية أبعاداً تاريخية، رؤية أعلنها في كتابه «فلسفة الثورة» بعد أقل من عامين على قيام ثورة 23 يوليو 1952.

تتلخص تلك الرؤية الاستراتيجية بالدوائر الثلاث التي حددها جمال عبد الناصر لحركة مصر خارج حدودها لتجعل منها قائدة في أمتها والعالم، وهي الدائرة العربية، والدائرة الإسلامية، والدائرة الإفريقية. وأهمية هذه الرؤية لا تكمن في إعلانها فقط. فقد سبقه إليها من تحدث عن تلك الدوائر بالتفصيل. بل بإعلانها مجتمعة ومتكاملة مبدداً أي محاولة لجعل الدائرة الواحدة في تناقض مع الدائرة الثانية.

وأهمية تلك الرؤية أنها لم تكن نتيجة قناعات فكرية أو أيديولوجية فقط. رغم أن أحد لا يمكن أن ينكر على الرجل التزامه بالقومية العربية. وبالوحدة الوطنية كقاعدة لها، ولا على إيمانه بالإسلام وحرصه على إرسال بعثات الأزهر إلى مناطق شاسعة من العالم لنشره. ولا على نهجه الإنساني العالمي الذي جعله حريصاً على مواكبة كل حركات التحرر في عالمه آنذاك. بل الأهمية أن ناصر أدرك ذلك. ومنذ أن كان طالباً  في الكلية الحربية يقرأ الكتب المتعددة المصادر والاهتمامات. ليكوٌن ثقافة «استراتيجية» بكل ما في الكلمة من معنى…

فكما كان ناصر مدركاً لتلازم الديمقراطية السياسية مع الديمقراطية الاجتماعية. وبترابط المعركة من أجل الخبز بتلك من أجل الكرامة. كان مدركاً أيضاً لتلازم أمن مصر الوطني بأمنها القومي الممتد شرقاً حتى جبال الأناضول. وجنوباً حتى منابع النيل، وغرباً حتى مشارف جبال الأطلسي، وتلازم تنميتها الاقتصادية مع التكامل الاقتصادي العربي. وتلازم دورها الثقافي والحضاري مع عمقها العربي والإسلامي. وتلازم فعاليتها العالمية مع دورها في دعم حركات التحرر العالمي واطلاق حركة عدم الانحياز إثر مؤتمر باندونغ عام 1957.

هذه الرؤية الاستراتيجية ذات الأبعاد العربية والإسلامية والأفريقية. هي ما تحتاجها مصر اليوم لتنفض عنها غبار الانكفاء الذي ادخلتها فيه سياسات «كمب ديفيد». ويحتاج إليها كل قطر عربي لإدراك أهمية التعاون والتشبيك بين أقطار الأمة وأقاليمها الكبرى. بل تحتاج إليها الأمة لكي تنسج روابط جوار قائمة على الاحترام المتبادل للمصالح والسيادات الوطنية مع دول الجوار الإسلامي والأفريقي. بعيداً عن افتعال عدوات جانبية، واشعال توترات طائفية ومذهبية وعرقية. لا هدف لها سوى صرف الانظار عن العدو الرئيسي المغتصب لارضنا ومقدساتنا. بل للحيلولة دون استعادة العرب لدورهم التاريخي والحضاري المعروف.

واليوم، وفيما يواجهه العرب، أنظمة وشعوباً ، من ظروف صعبة، وحروب دامية، وفتن متجولة، وعداوات مفتعلة، يبقى التمسك بالعمل في أطر الدوائر الثلاث، العربية والإسلامية والأفريقية، وطبعاً الأممية (الأسيوية وأمريكا اللاتينية) كما فعل لاحقاً جمال عبد الناصر، هو خشبة الخلاص لهم، خصوصاً حين تقترن هذه الرؤية الاستراتيجية بسياسات داخلية ترتكز على المقاومة ضد الاحتلال والهيمنة، والمراجعة للتجارب والعلاقات البينية بايجابياتها وسلبياتها، وللمصالحة بين مكونات المجتمعات والأمة، وللمشاركة الفعلية للشعب في تقرير مصيره.

وبهذا المعنى لا يعود الاحتفال بميلاد جمال عبد الناصر، الثالث بعد المئة، مجرد احتفال بروتوكولي، وطقس من طقوسنا القومية، بل يصبح أيضا موعداً لتجديد العهد بالالتزام بثوابت الأمة التي عاش من  أجلها «أبو خالد» واستشهد وهو يدافع عنها وفي القلب منها فلسطين ومقاومتها.

ولعل ما يشجعنا على هذا الالتزام اليوم، هو أن عالمنا يشهد مرحلة شبيهة بتلك التي كان جمال عبد الناصر وثورة يوليو والأمة العربية يساهمون بصناعتها، وهي مرحلة سقوط إمبراطوريات عظمى، كما رأينا في فشل إمبراطوريات العدوان الثلاثي على مصر، وفي فشل استعمارها في الجزائر وجنوب اليمن، وعلى أمتداد الوطن الكبير..

فحال الإمبراطورية الأميركية اليوم، ليس بأفضل من حال الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في خمسينات القرن الماضي، وكما كان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، بداية ذلك الأفول، فأن الحرب «الثلاثينية» الأولى على العراق في مثل هذه الأيام قبل 30عاماً، والتي توجتها الحرب، ثم الاحتلال عام 2003، شكلت بداية الأفول والانكفاء لامبراطورية «العم سام» التي ظن «فلاسفتها» أنها قد وصلت مع هيمنتها في بداية هذا القرن إلى «نهاية التاريخ»، فإذا بالتاريخ يعلن نهاية هيمنتها على العالم ويكشف عمق أزماتها في الداخل أيضا.

 

 t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button