اسمحوا لى أن أبدأ سلسلة قصيرة، حول واحد من أهم مبادئ حزب الوفد، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وهو مبدأ «الوحدة الوطنية» الذي كان شعاره «يحيا الهلال مع الصليب» وهي سلسلة نبدأها بمناسبة اقتراب أعياد الميلاد المجيدة.. ودعونا نبدأ بالحديث عن الفدائي الذي دفع حياته ثمناً لإنقاذ الزعيم مصطفى النحاس، الوفدي الخالد «سينوت حنا»..وإليكم قصته الوطنية الدرامية الخالدة.
حاسب يا باشا! خرجت الكلمة قوية من لسان سينوت حنا مخاطبًا مصطفى النحاس باشا زعيم الوفد والأمة..كان النحاس مشغولًا بتحية الجماهير الغفيرة التي احتشدت لتحيته في المنصورة يوم 9 يوليو عام 1930. خلال معركة الوفد الجهادية الطويلة في مواجهة القصر والاحتلال.. لكن يبدو أن زعيم الأمة كان قريبًا جدًا من الخطر.
سمع النحاس صوت صديق عمره سينوت حنا بصعوبة شديدة، فقد كانت أصوات الجماهير تطغى على كل شىء.. نظر الزعيم إلى مصدر الصوت، فوجد جنودًا من الهجانة تغرس السونكى في أجساد الوفديين، ورأى جنديًا يتقدم نحوه، مشهرًا سلاحه، وشهد السونكى يتجه نحوه بسرعة شديدة، وقبل أن يلمس جسده، ألقى سينوت حنا بنفسه فوق النحاس ليتلقى الطعنة بدلًا منه، ويفسد مؤامرة جديدة لاغتيال زعيم الأمة ومصدر الإزعاج الوحيد للملك والإنجليز، ليغرق وجه النحاس بدم سينوت حنا. الذي صرخ من شدة الطعنة، فقال له النحاس «سلامتك يا حبيبى».. فقال له سينوت «روحى فداك يا باشا»!
لم تكن هذه هي المحاولة الأولى لاغتيال النحاس.. ولم تكن الأخيرة.. فقد كان الرجل مستهدفًا من قبل إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية. فقد ضاق ذرعاً بشعبية النحاس باشا، رئيس حزب الوفد، والجولات التي يقوم بها وسط الجماهير في مختلف مدن وقرى مصر. مطالبًا بإسقاط الدستور الملكي أو ما يسمى دستور 30. وفي الوقت نفسه، كان يخوض معركة «ضروساً» لإعادة دستور 23.
وكان النحاس باشا عندما يصل بالقطار إلى إحدى المدن، يغلق الجنود المحطة ويتم منعه من الخروج منها أو دخول الجماهير إليها.ويظل قابعا أمام مقر المحطة إلى أن يضطر للعودة إلى القاهرة، فيبادر إلى التسلل إليها بالسيارة. مثلما فعل في مدينتي بني سويف والمنصورة، حيث حاول صدقي باشا بطرق ملتوية إفشال عقد اجتماعات النحاس مع أنصاره.. وإجباره على العودة إلى القاهرة بدون إلقائه خطبه الحماسية. وأصدر قرارًا بحظر التجمهر، وأعطى قوات الأمن أوامر بفض التجمعات الجماهيرية بالقوة والقبض على المشاركين فيها وتقديمهم للمحاكمة.
لقد مات سينوت حنا بعد هذا الحادث بثلاث سنوات متأثرًا بجراحه التي لم تندمل.. وصف الأطباء حالته على النحو التالي: «جرح في أعلى الذراع اليمنى عند المفصل بعمق 70 ملليمترًا وباتساع 10 سنتيمترات وكسر في إحدى عظمتي الذراع ويحتاج إلى علاج أربعة أسابيع».
وجاء صوته خافتًا «الحمد لله إذ لم يصب الرئيس – النحاس- بشيء». وفى خطابه بالمنصورة تحدث مصطفى النحاس عن إصابة سينوت حنا قائلًا: كان عن يساري وكانت الطعنة مصحوبة إلى ظهري، فدافع عني وتلقى الطعنة بذراعه. حفظه الله. ووصف النحاس.. سينوت حنا قائلًا إنه «أعز عزيز على نفسي من نفسي».
ويقول المؤرخ عبدالرحمن الرافعي: وصرح النحاس لمراسل صحيفتي «التايمز» و«الديلي تلجراف» البريطانيتين بأنه هو الذي كان مقصوداً بهذا الاعتداء، ونشرت «الأهرام» يوم 9 يوليو عام 1930 الرواية التالية: جاءت سيارة النحاس ومن معه، فأفسح لها الجنود الطريق، فاجتازت كوردونين، وعند الكوردون الثالث، أوقف جنود مسلحون ببنادقهم وسنجاتهم السيارة، فظن النحاس باشا وزملاؤه أن المقصود إنزال الذين أحاطوا بالسيارة من الأهالي، ولكن ما كان أشد دهشتهم عندما رأوا الجنود يصوبون سنجات بنادقهم إلى جميع ركاب السيارة، ومنهم النحاس باشا نفسه. فلما رأى سينوت حنا جندياً يصوب السنجة إلى ظهر النحاس، أسرع لمنع سهم الجندي. فتلقى السنجة فى ذراعه اليمنى وأصيب بجرح بالغ. وأسرع محمد أفندي عنان باحتضان الرئيس، لمنع سنجات الجنود من الوصول إليه، وقد انطبع الدم الذي سال من جرح سينوت حنا على ملابس النحاس.
نزل سينوت «بك» حنا من السيارة، وأدخله زملاؤه إلى منزل الشيخ على بك عبدالرازق الذي وقعت الحادثة أمامه وتلقى الإسعافات الأولية ثم نقل إلى منزل الشناوي بك، حيث أحاط به جميع أعضاء الوفد مستفسرين عن صحته، كان متجلدًا، ويبتسم ويقول «الحمد لله إذ لم يصب الرئيس بشيء».
هذه الحكاية لا تعني أن كل تاريخ سينوت حنا أنه افتدى النحاس باشا بل كان نشاطه موضع اهتمام البوليس السياسي والقصر والإنجليز.. حتى عقب هذا الحادث، فقد ضبط خدمه أحد رجال البوليس الملكي في الطابق العلوي بداره وفي يده حقيبة. واتضح أنه دخلها زاعمًا أنه مهندس من مصلحة التليفونات جاء لإصلاح تليفون المنزل ثم ارتبك واعترف بأنه من رجال البوليس الذين أصابهم القلق من نشاطه السياسي والنضالي في مواجهة القصر والاحتلال.
اعتلت صحة سينوت حنا، بسبب هذا الحادث، وتوفي في بيته برمل الإسكندرية مساء يوم الأحد 23 يوليو 1933 وعمره 53 عاماً. وألقى مصطفى النحاس خطابا على قبره تناول فيه عمق مشاعر الحب لدي سعد زغلول و«صفية» أم المصريين لابنها وأخيها سينوت حنا. وأعلن أنه مدين له بحياته. حيث تلقى عنه طعنة أثيمة من يد أثيم.
حكاية سينوت حنا ليست مجرد قصة فداء قيادي وفدي لزعيم وطني. ولكنها حكاية إخلاص للمبادئ والزعامة، حكاية تستحق البقاء والسرد والخلود.
tarektohamy@alwafd.org
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية