ربما أدرك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أخيراً أنه لا محالة سيغادر مكتبه مرغماً، وسيتخلى عنه كارهاً، وأن محاولاته البقاء في البيت الأبيض قد باءت بالفشل. وأن الدعاوى التي رفعها أمام القضاء طعناً في نتائج الانتخابات، وتشكيكاً في مجرياتها قد رفضت بمجملها، وأن نتائج إعادة الفرز والعد قد أكدت خسارته وعززت فوز منافسه جوزيف بايدن، الذي اعترف بفوزه غالبية قادة دول العالم وحكام الولايات الأمريكية.
وزاد في يأسه وقنوطه أن قطاعاً كبيراً من مؤيديه في الحزب الجمهوري باتوا يعارضونه ويبتعدون عنه، ويطالبونه بالقبول بنتائج الانتخابات والاعتراف بالهزيمة وتهنئة منافسه، وتسهيل اجراءات التنصيب ونقل السلطات، للحفاظ على صورة أمريكا الديمقراطية، وحماية نظامها الانتخابي الموروث.
إلا أن دونالد ترامب الذي سخر فترة ولايته لخدمة المشروع الصهيوني، وحماية الدولة العبرية، وتأييد صديقه المأزوم بنيامين نتنياهو، فقدم لهم أسمى ما يتمنون، وأكثر مما كانوا يحلمون، يصر في الأيام القليلة المتبقية له في البيت الأبيض رئيساً، متمتعاً بكل صلاحياته وامتيازاته، أن يقدم للشعب اليهودي أقصى ما يستطيع من خدمات، مستوحياً خدماته من الروح الانجيلية التي تملي عليه أن يكون خادماً لليهود، منفذاً رغباتهم، راعياً مصالحهم، حريصاً عليهم، مضحياً من أجلهم، وهو يعتقد أنه بما يقدم إنما يطيع الرب وينفذ أوامره، وبغير ذلك يكون عاصياً مذنباً، يستحق الطرد من الكنيسة والحرمان من البركة.
كثيرةٌ هي الخدمات التي قدمها ترامب خلال فترة رئاسته، وفي الأيام القليلة التي سبقت الانتخابات الأمريكية، إلا أنني لا أود هنا تعدادها وسردها، فهي أكثر من أن يشملها مقالي هذا، ولكنني سأكتفي بعرض ما قام به لصالح الكيان الصهيوني بعد انتهاء الانتخابات، ويقينه أنه سيرحل وسيفارق، وسيفقد الصلاحيات ويحرم من الامتيازات.
استعجل ترامب الخطى وبادر إلى إصدار العديد من القرارات، التي بدا عليه صفة العجلة ومحاولة الاستدارك، ولعله قام ببعضها من تلقاء نفسه، وبدافعٍ من قناعاته الشخصية، لكنه قام بغيرها بتشجيعٍ وتحريضٍ من نتنياهو شخصياً، ومن مستشاريه اليهود ومواليهم، ومن أعضاء اللوبي الصهيوني وأصدقاء الدولة العبرية، الذين رأوا في صلاحيات ترامب الأخيرة فرصةً كبيرةً قد لا تعوض قريباً.
بغض النظر عن محاولات إنكار استقبال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في حضرة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، فإن أغلب التقرير تؤكد أنه استقبله والتقاه، واجتمع به وبفريقه المرافق الأمني والعسكري الذين اصطحبهم معه، ومنهم رئيس الأمن القومي مائير بن شبات، ورئيس الموساد يوسي كوهين، والمستشار العسكري لنتنياهو.
وقبل ذلك أمر الرئيس الأمريكي بتسيير عددٍ من القاذفات الأمريكية العملاقة 52B، التي انطلقت من قواعدها في الولايات المتحدة الأمريكية نحو منطقة الشرق الأوسط، فيما بدا أنه تمهيدٌ فعلي لتنفيذ عملياتٍ ما، أمنية أو عسكرية، ضد أهدافٍ معينةٍ في منطقة الشرق الأوسط، لا يستبعد أبداً أن تكون في إيران أو سوريا أو لبنان، إلا أنها من المؤكد تخدم المشروع الإسرائيلي، وتتماشى مع الأهداف الاستراتيجية التي ترسمها الحكومة الإسرائيلية وتتطلع إليها.
لم ينس ترامب في لحظاته الأخيرة أن يلبي أمنية نتنياهو، ويستجيب إلى الطلب الإسرائيلي القديم والمتكرر دائماً، والذي عجزت عن تحقيقه كل الحكومات الإسرائيلية السابقة، على مدى عشرات السنوات الماضية، ولم يتجرأ أي رئيسٍ أمريكي أن يتخذ قراراً بشأنه، رغم الطلبات الإسرائيلية المتكررة والالحاح المستمر، إلا أن دونالد ترامب كان الوحيد من بين الرؤساء الأمريكيين، الذي تجرأ وأصدر قراراً بالعفو عن الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولارد، وسمح له بالسفر إلى فلسطين المحتلة، وقد بادر نتنياهو بعد أن قدم الشكر للرئيس الأمريكي، بالاتصال بجوناثان بولارد وزوجته، وأمل في استقبالهم في الأيام القليلة القادمة في كيانه الصهيوني.
كما سمح الرئيس الأمريكي بتزويد الكيان الصهيوني بعددٍ من القاذفات الأمريكية العملاقة، F35، ونقل إليه مجموعة من بطاريات الباتريوت المتطورة، وزوده بعددٍ من القنابل الهجومية الاستراتيجية، التي ينفرد الجيش الأمريكي وحده بحيازتها، ووافق على تمرير حزمة مساعداتٍ عسكرية للجيش الإسرائيلي لتمكينه من مواجهة العجز الذي يواجهه بسبب التأخير الحادث في إقرار الميزانية الإسرائيلية، وبسبب تداعيات وباء كورونا الذي أثر على أداء الجيش وعطل جوانب مهمة من فعاليته.
أما زيارة وزير خارجيته مايك بومبيو الأخيرة إلى الكيان الصهيوني، التي زار فيها مستوطنة بساغوت بمدينة البيرة، وشرب فيها النبيذ من أحد معاملها، فقد رفعت الحجر الأمريكي عن منتجات المستوطنات الإسرائيلية، وأنهت التمييز بين منتجاتها والمنتجات الإسرائيلية الأخرى، وتوقفت سلطات الجمارك الأمريكية عن وسم منتجات المستوطنات بوسمٍ خاصٍ يميزها، واكتفت بذكر الكيان الصهيوني بلد المنشأ والإنتاج، وهو الأمر الذي حاول قادة المستوطنات ومجالسها التوصل إليه، بعد الأضرار الكبيرة التي تسببت بها سياسة دول الاتحاد الأوروبي، التي رفضت الاعتراف بشرعية المستوطنات المشادة في القدس والضفة الغربية.
وقبيل وصول مايك بومبيو إلى فلسطين المحتلة، أصدرت الإدارة الأمريكية قراراً باستبدال مكان ميلاد المواطنين الأمريكيين الذين ولدوا في مدينة القدس، من القدس إلى إسرائيل، في دلالةٍ واضحةٍ إلى رفض الاعتراف بالوضع الخاص لمدينة القدس، والاعتراف بها جزءاً لا يتجزأ عن دولة «إسرائيل»، وذلك تأكيداً على قرارها السابق بالاعتراف بمدينة القدس الموحدة، عاصمةً أبدية لدولة «إسرائيل».
ما زال في جعبة ترامب الكثير لنتنياهو وللدولة العبرية، فهو يطمح إلى ما هو أكثر وأخطر، وقد كان يأمل أن يواصل ما بدأه خلال سنواته الأربع الماضية، أما وقد خاب وخسر، فإنه قد ينفذ ما هو أجرأ وأخطر، إذ ما زال أمامه حتى الآن خمسٌ وخمسون يوماً أخرى، يستطيع خلالها وفق القانون، وبموجب الصلاحيات الممنوحة له من الدستور الأمريكي، عمل ما هو أكثر وأخطر، ولهذا فإن علينا أن نتهيأ لمفاجئاتٍ جديدةٍ، وقراراتٍ شاذةٍ، وأن نحذر هذا المجنون الخرف، وأن ننتبه إلى خطورة نهاية عهده وخاتمة حكمه.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية