نون والقلم

بسام عبد السميع يكتب: رحيل العابد

بكاء بلا دموع.. وذهاب بلا رجوع.. وانقطاع بلا تواصل.. لذكرى بعد مشاهدة.. وانتباه من غفلة.. هكذا حدثت لحظة الرحيل فسالت الدهشة لنغرق في زمن الألم.

رغبت في أن أحادثه ليلة رحيله فأرجئت الاتصال للغد الذي جاء مغلقاً كل شبكات الاتصال، فقد رحل من اعتقدت أن بإمكاني محادثته وقتما أرغب!!.

و في عام التقلبات.. جاء موت الانتباه في زمن التيه.. فأمسكت بالتواصل لمن بقي على قيد الحياة، فالموت يفاجئنا ويصدمنا ويحادثنا بشتى ألوان الرسائل !!.

جلست إلى نفسي محاولاً استعادة فرصة الحديث معه والاستماع إليه، لتهدأ النفس وتملئها الغبطة من معرفة الإنسان إبراهيم العابد.. إنه صوت الإمارات في الإعلام.. وصوت الإنسان في الحياة.. وعنوان تجربة تشابهت مع الأوّلين فكان أحد البنائيين الكبار في دولة الإمارات العربية المتحدة .

وصار اللوم سلوكي تجاه نفسي فكيف أضعت لحظات كانت تهدأ من روعي ولماذا أرجئت الحديث معه؟.. ولماذا لم أذهب إليه طالباً التعلم والمعرفة؟.. ولماذا غاب عني الاغتراف كثيراً من نهر جار بالخلق والعمل والقيم مع تواضع وأدب جم.. نقرأ عنه في سير السابقين؟.. ولماذ؟..و لماذا؟.

ولماذا أضعت فرص التعلم من المعلم الأول..إنه سقراط الإعلام الإماراتي و فيلسوف العلاقات الإنسانية في زمن التفكك.. إنه مفكر صناعة الديبلوماسية وحوار الإنسان مع الإنسان ؟!.

لقد عشت هذه اللحظات في منتصف يوم الثلاثاء 20 أكتوبر ولعدة أيام فقد استيقظت متأخراً وخلال الظهيرة طالعت الفيسبوك فإذا بصديقي الدكتور جمال المجايدة ينعي رفيق دربه وأستاذه ومعلمه الأستاذ إبراهيم العابد فباغتني الألم والدهشة وصرت مذهولاً لبعض الوقت تلوح أمامي صور الماضي والأمس القريب جداً ، فيوم الأثنين 19 أكتوبر رغبت في الاتصال بالأستاذ إبراهيم العابد لأسعد بسماع صوته والحديث معه، ثم أرجئت الاتصال للغد بعدما تحدثت مع الدكتور جمال المجايدة وأخبرني أنه سيلتقيه غداً الثلاثاء.. فقلت إذا أتحدث معه وهما معاً .

واتصلت بالدكتور جمال المجايدة بعد ساعتين من قراءة خبر رحيل إبراهيم العابد لأواسي نفسي، فلم يجبني، وانتظرت حتى عصر الجمعة 23 أكتوبر وحدث بينا الاتصال، وكان الألم هو الأثير المنبعث من كلماتنا .

إبراهيم العابد

وقلت للدكتور المجايدة:« لقدر رغبت في الحديث إلى الأستاذ والامتنان له بما يفعله تجاه أي إنسان، فقد رأيت بعيني وعشت معه لحظات مساعدة الآخرين بقوة وحب وإخلاص وتفان وكأنها مهمته في الحياة» وذلك على مدار 10 سنوات عرفته فيها.

وعندما كنت أعبر للأستاذ عن امتناني لما يفعله فيجيبني قائلاً :«استغفر الله».. ما فعلت شيء !!.

وقد كانت آخر تجربة لمساعدة الإنسان عبر الأستاذ إبراهيم العابد آواخر العام الماضي ولم ألتقيه بعدها، وإنما كنا نتحادث هاتفياً بسبب إجراءات وأحوال عام كورونا، وما جرى فيه من غرائب حالت دون لقاء الكثيرين حتى الأسرة الواحدة !!.

وقد حادثته يوم الأثنين 23 ديسمبر 2019 عن حالة إنسانية فقال :«ارسل كل التفاصيل عبر الواتس آب وسأنتظركم غداً مع إحضار كل الأوراق الدالة على ظروف هذه الحالة الإنسانية».

واتصلت بالزميل العزيز الذي حدثني عن هذه الحالة فأخبرني بأنه يحتاج بعض الوقت لتجهيز الأوراق فاتصلت مرة ثانية بالأستاذ إبراهيم العابد فقال :« جهزوا الأوراق وأي وقت الساعة 9 صباحاً انتظركم في المكتب» .. فقط ياريت تكلمني قبل الموعد بيوم حتى لا تأتي وأنا خارج المكتب بسبب أي ارتباط !!.

وتم تجهيز الأوراق وحادثته السبت 28 ديسمبر بأننا جاهزون لمقابلته غداً فقال بلاش غداً علشان عندي ارتباط خليها الاثنين الساعة التاسعة صباحاً .

وذهبنا في الموعد وصعدنا إلى مكتبه في الطابق السابع بمبنى المجلس الوطني للإعلام والتقانا مبتسماً مصافحاً وكأننا ذهبنا إليه بشيء ينتظره .

ولا يفوتني هنا أن أذكر أنني لم أذهب إليه بموعد أو دون موعد وأجد مكتبه مغلقاً وهي حالة نادرة في عالمنا العربي لصغير أو كبير في أي موقع من مواقع المسؤولية.

وأمسك الأستاذ إبراهيم العابد بالأوراق، وقام بالبحث في هاتفه ليجري عدة اتصالات في أماكن مختلفة، ويسألنا عن أي مكان نرغب في الذهاب إليه لتقديم المساعدة فيبحث في قائمة الهاتف عن أي شيء له صلة بهذا المكان أو يعرف أحد في هذا المكان .

ارتسم الخجل على ملامحي فرجل بهذا التاريخ والقيمة الكبيرة والمنصب الرفيع يبذل كل هذا الجهد لتقديم الخدمة وهو فرحاً سعيداً ويحادثنا كلما أجرى مكالمة ويعتذر عن انقطاع الحديث حينما يرغب في إجراء مكالمة من أجل مساعدتنا !!.. وأقول ياليت الحمقى والمغرورين يتعلمون .. وأعتقد أن ليت لتمني المستحيل ولن يتعلم أحد.

ومضت 30 دقيقة شربنا فيها القهوة وأجرى الأستاذ إبراهيم العابد نحو 5 مكالمات دقيقة وسريعة وحاسمة في تقديم المساعدة مع امتنان لكل من تسمح له الظروف بالمساعدة أو لا تسمح مع تقديم الشكر .

إنها حالة سلوكية إنسانية تعلمت منها عبر الأفعال والأقوال.. حالة بكيتُ فراقها لأني أضعتُ فرصاً كثيرة لمزيد من التعلم والعيش لفترات مع حالة إنسانية راقية جداً.

وخرجت وصديقي صاحب الحالة الإنسانية، وبدأ الأستاذ العابد في محراب خدمة الإنسانية وحامل لواء الخلق الملتزم بالتواضع والمعرفة الواسعة ، تلاحقنا اتصالاته لمعرفة ما فعلناه تجاه الأماكن التي أرشدنا للذهاب إليها ومقابلة مسؤوليها.

ومضى يومي ليعاود الأستاذ الاتصال مطمئناً على ما جري وما يمكن تقديمه مرة أخرى .. فقلت له: يا أستاذ أنت فعلت الكثير والأمور بخير فقال :« استغفر الله» ولا تقول أي كلمة.. إذا فيه أي شيء لأي حد اتصل بي على الفور.. فلا أحد يفعل شيء كل شيء بأمر الله.

إنه إبراهيم العابد مزيج من العطاء واليقين والايمان بالله وبذل كل الجهود لخدمة الإنسان .

وكثيراً ما حادثني زملاء بحثاً عن فرصة عمل في الإعلام فأقول لهم: إذا كنتم تعرفون الأستاذ إبراهيم العابد اتصلوا به على الفور فلن يتأخر في مساعدتكم ليتواصل معي هؤلاء قائلين: اتصل بالأستاذ ووعدنا ببذل كل الجهد واتصل بفلان وفلان.. فأقول في نفسي هذا هو الإنسان.. أحب الجميع فأحبوه.. ورحل عنهم فبكوه لتبقى مشاهدات حياتيه الإنسانية والمهنية ذخيرة وثروة نغترف منها جميعاً للسير على نهجه والامتنان لفعله ..

لقد رحل الجسد وبقيت روح العطاء وسلوك النبلاء وأداء الفرسان قواعد للبناء والمضي إلى المستقبل .

لقد رحل صوت الإمارات.. رحل من كان عنوانه التواضع.. رحل من كان دربه الدقة والحذر، لينضم في حياته وبعد رحيله إلى قائمة النبلاء عبر الأزمان، فتطابق اسمه وفعله.

إنه الأستاذ إبراهيم العابد الذي سيبقى حاضراً بفكره وخلقه.. إن تجربته هي الحكاية.. ومسيرته شكلت البداية .. وعطاؤه ألهم الجميع .. وخبرته حققت التطور .. وتاريخه قاعدة الذهاب للمستقبل.. والتعرف اليه نقطة تحول في حياة الكثيرين .. فارقنا جسداً ولن تفارقنا روحه النقية وبصماته الوفية للحياة والإنسانية.

إنه الفارس النبيل.. الملهم للعمل عبر خمسة عقود من العطاء.. دقيق الملاحظة، ويتسم بالحذر في تلقي المعلومة والباحث في صحة ما يقرأ، والمتابع لكل ما يكتب هنا أو هناك .

لقد رحل الأستاذ إبراهيم العابد الذي شكل حالة دائمة من العمل مع التركيز والصمت والابتسامة.. إنه حالة إنسانية وفكرية استثنائية، فكان جديراً بتجربة خاصة تبقى في تاريخ الإمارات والإعلام العربي لأزمان قادمة .

ورحل الأستاذ إبراهيم العابد عن 78 عاماً تاركاً ررثاً كبيراً وعظيماً للإعلام والإنسانية.

وتخرج الأستاذ إبراهيم العابد في الجامعة الأمريكية في بيروت وحصل على ليسانس العلوم السياسية والإدارة العامة وانتقل إلى الإمارات عام 1975مسوولية الإعلام الخارجي في وزارة الثقافة و

لينسج حكاية الإمارات في الإعلام داخلياً وخارجياً ويؤسس وكالة أنباء الإمارات عام 1977 ويتولى إدارتها حتى عام 1989 ثم يكلف بإدارها عام 1997 وصولاً إلى تعيينه مدير عاماً للمجلس الوطني للإعلام في الإمارات فمستشاراً لرئيس المجلس.

وحظي الراحل الأستاذ إبراهيم العابد خلال مسيرته بالعديد من التكريمات منها جائزة شخصية جائزة دبي للصحافة باختياره شخصية العام الإعلامية 2014، و«جائزة أبوظبي 2018»، وجائزة تريم عمران عام 2007 ، وجائزة جمعية أصدقاء الكتاب في بيروت، وغيرها العديد من الجوائز.

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولي

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى