ذات أيلول، كنت أضيق ذرعا بوجع صامت تعودت أن أبقيه متواريا، بعيدا عن التلصص. فقد علمني جبروت الحياة وتعنت أوجاعها، أن كل الطرق إلى رحاب الفرح ضيقة، وأن أمضي مبتسما بخطو لا ضجيج لانينه. كنت أعايش غربة هلامية، كثيرة التفلت لا تنام، دندناتها تقاسيم داخلية حزينة. بحثت مطولا في غيبوبتها الرجراجة عن حجامة لمشاعري، بعيدا عن عاشقات المظاهر وثرثرات الأنا .
على ضفاف السياسة المحلية التقيتها. في إحدى المحاججات، أطلت على سجيتها، محاطة بابتسامة مهذبة، تفوح فرحا يغنيك عن التأويل والتوجس. اعتقدت للوهلة الأولي، أنها مزاجية تترفع بالصمت، وتعاتب بكل لغاته. ولكن سرعان ما بددت ذاك الانطباع، وأن الصمت الأبكم ليس من طباعها، ولا اعتزال الكلام الموزون .
في أول لقاء، ارتطمت اصطفافاتنا باحترام كيس. مع كل طريق اخذني إليها، كانت نضارة تفكيرها تقلم ذاك الارتطام، حتى تماهت آفاق أهدافنا . قادتني دعابات روحها اللماحة لخلخلة الكثير من توجعاتي التي لا يليق بها، وبما يغشاها تلميحا أوتصريحا من عطر .
عصر الأول من أيلول مضى قبل سنين وأيام، صحوت من قيلولة متأخرة على صوتها يسأل:ماذا لو كنا نحتسي قهوتي معا هناك هذه الليلة؟ مَسحت بقايا النعاس المتبقي في عيني، فتحتهما على اتساعهما، ثم أغمضتهما مستكينا وكأني أسلم الروح. أبحرت في الخيال بلهفة، وأنا أقول مستجيبا، أي دعوة خرافية هذه .
مع أول ليل ازدحم بعتمة مكتظة بالنجوم، وصلنا تباعا إلى مغاريب عمان، انتبذنا مكانا مطلا على فلسطين. اشعلت شموعا احضرتها معي. ناولتني قهوة أحضرتها معها. ما أن اعتدلت على كرسيها قبالتي، بادرتها وأنا أتامل عينيها بالقول: مثلك أنا أؤمن بأن الأرواح في الليل لا تنام، بل تتلاقى أكثر . ومثلك أحب متعة إحصاء النجوم بعيدا عن أضواء المدينة .
ابتسمنا ونحن ننصت لصرصار الليل البري، خلته يترنم معي سنة حلوة يا جميل . ناولتني فنجالها لتشعل سيجارتها . وقالت بعد إن نفثت دخانها باتجاهي، واستعادت قهوتها من يدي، صحيح أنك جئت مختلفا عن كل من جاء ومن يزال، ولكنك مثير في المضامين. حدثني عنك بما ييسر ابحاري فيك ؟!
كمن كان ينتظر هذه المكاشفة، قلت مقدما أوراق اعتمادي: انجبتني نجما قدماه على الأرض، كي لا أشبه أحدا . اوصتني أن أكون سيد نفسي وظرفي وأنا انحاز للحياة. وكي لا انتظر على شطانها، اوصتني بالسباحة المتقنة باتجاه حلمي، وأرضعتني تنويعات هائلة من الثقة والكبرياء، لاواجه مفردات التحدي على حواف الحياة ولججها .
وفي المضمون ، ثمرة لرضا أب ودعوة أم، إعتادت أن تكرم ولدها البكر ، بدعاء استطال حتى لامس أسماع رب كل الناس. سألته أن يسعد ولدها برزق طيب، يتكئ على صحة في الجسد، ومعرفة في العقل، وسلامة في القلب، وصفاء فكر، وسكينة روح، ونفسا مطمئنة محبة للناس وسعة في حب الناس له . وقبل رحيلها سألته أن يتم نعمته عليه، بحب أجمل خلقه . من تلك اللحظة لم يعد ينافسها أحد بدعاء مثل هذا. أبواب السماء كانت مشرعة آنذاك .
في أوقات هاربة من التأريخ ، كبرت وصرت أنا . وبقي وعيي في متناول هذا الدعاء . في ظلاله ، تحركت بي رغبة الاستكشاف. حرصت على أن أبحث عن فرحي، بالحد من رغباتي، لا بمحاولة إشباعها . فتعلمت أن الموسيقى بلا شريك ضجيج، وأن الرقص بدونه عبء جنون . صبرت مطولا على وقت مضى خاليا منها .
كنت مؤمنا ولا زلت، أن امتلاك المرأة لتضاريس ملكةَ جمالِ ليس ضروريا ، ولا حاجة لأن تمتلك حكمة زنوبيا ، ولا ذكاء مريم العذراء عليها السلام أو خديجة رضي الله عنها ، لتقوى على الحياة ، وتتعرف على عتبات القلوب ، وتتقن فنون الشراكة . يكفي ان تمتلء جنباتها بظلال وارفة والفة طازجة ، لتعبر بسلام شراكة دافئة ، وأن تبحر بنجاح متجدد ، في كل مفاصل الشراكة ومطباتها.
العمر جميل ولكني لم اذق اغلبه ، ولم اتكسر عبر معارجه ، وإن تشوهت كثرة من أحلامي، تشظى بعضها وضمرت اخرى ، ومبكرا وصل بعضها إلى نهايته . كنت لا استطيع رد الاذى إلا بأنين لا يسمعه إلا الله ، ومن تمنت علي أن لا أخذلها . لأستحق القوامة على وصيتها ، ضمدت بعضي ورممت بعضا ، وحرصت على أن لا يسقط شيئا من أحلامها . فامي فيما تمنت تتكئ على الكثير مما نقشته في روحي .
وهي تجدد لي قهوتي قالت: في ما سمعت منك، كثير من الرسائل المغلقة، تشي كلها بانك قد ولدت وفي فمك ملعقة من تعب . وصمتت لتنفث دخان سيجارتها في الهواء المتجه الى رئتي .
وشفتاي تداعب حواف الفنجال الساخن الذي احتضه كعاشق بين راحتي، قلت: لست متعبا مما يحدث حولي يا سيدتي، بقدر ما أنا متعب مما يحدث داخلي . شعور مؤلم أن ياتيك ما كنت تتمناه ، وقد تاخر الوقت ، وتغيرت انت ، وتغيرت الأمنيات .
قالت تسعفني: نعم فالصمت الاجباري عدو وإن كان لينا ، فهو قاضم للروح ، ببطء يفقدها شهيتها للحياة ، رغم ما يحيط بشباكها من سمك.
رفعت شفتي عن حواف الفنجال ، وقلت وانا ابحر في عينيها: لاني ملاح ، لا احب العيش بلا قلق . أتمنى ان تعاد لي طفولتي ، لاستمتع برفقتها واعايش شغبها من جديد .
انتصبت باسقة كالسنديانة التي كنا نجلس تحتها وقالت فرحة : رضيت بك وطنا وفرحا ، اترضى بي طفلتك المشاغبة ؟
بت أعرف معنى أن تكون أخت شعيب هي اخت هارون بالذات . فمع منتصف كل ايلول ، سنة حلوة جديدة ، تتمطى على وجهي فرحة كقطة شيرازية ، تأبى أن تشيخ ، وبلا كلل تتزنر ببسمة تخضعها لصد ما قد يطفو من حزن لا يقال ، وتتسع لألف تأويل وتأويل .
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية