نون والقلم

سورية إلى «محاصصة» والأسد على خطى صالح ؟

الأزمة السورية أمام مزيد من التطورات هذا الأسبوع. وزير الخارجية الأميركي سيلتقي في الدوحة نظيره الروسي سيرغي لافروف. ويجري الوزيران محادثات مع نظرائهم الخليجيين في شأن تحريك التسوية السياسية والرؤية التي اقترحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. إلى جانب وسائل تفعيل الحرب على «الدولة الإسلامية». ويتوقع أن تطرأ معطيات جديدة على التحرك العسكري التركي شمال سورية وفي الحملة على حزب العمال الكردستاني. حتى الرئيس بشار الأسد لم يبق خارج المرحلة الجديدة في هذه الأزمة. اعترافه بالمتاعب والعقبات التي تعترض مشروعه للحسم العسكري يستدعي منه بالمبدأ والمنطق إعادة النظر في خياراته. فما يواجهه جيشه ليس جديداً. الجميع يعرف أن قواته التي تخوض القتال في أكثر من ستين جبهة باتت منهكة. وأعداد المتخلفين عن خدمة العلم في الساحل لا تقل عنها في باقي المناطق. بينما يقود العمليات في الميدان قادة لا رابط بينهم سوى المزيد من الغرق في الفساد واقتسام مناطق النفوذ. تحللت المؤسسة ولا قيادة أركان عامة لإدارة القتال. وينشط «حزب الله» في تجنيد مزيد من الشباب السوري الذي يتلقى رواتب أفضل وتدريباً جيداً… على طريق إنشاء جيش بديل على غرار ما في العراق واليمن ولبنان. وهذا ما يجعل الجمهورية الإسلامية تشعر بالعبء الكبير الذي يرتبه عليها استمرار الحرب في بلاد الشام.

إلى هذا الوضع العسكري المزري، هناك موقف تركيا التي دخلت مبدئياً الحرب على «داعش» بعد تفاهمها مع الولايات المتحدة. وستتقدم قريباً نحو ترجمة هذا الاتفاق بإقامة المنطقة الآمنة التي يفترض أنها ستكون بطول 140 كيلومتراً وعمق نحو أربعين كيلومتراً. وهناك أيضاً المكاسب التي لا تزال فصائل المعارضة تحققها في شمال البلاد وجنوبها. هذه التطورات الميدانية يجب أن تكون كافية لإقناع النظام في دمشق بوجوب الاستعداد للقبول بشروط التسوية السياسية على قاعدة لا أولوية فيها لملف على آخر. المبعوث الدولي الذي يدرك أهمية التركيز الدولي على محاربة الإرهاب. لذلك ربط هذه الأولوية ونجاحها بوجوب التغيير السياسي في سورية. أي أن الخطة ستسير في الملفين العسكري والسياسي معاً. وإذا لم يقتنع، فإن القوى التي تستعجل التسوية من أجل التعجيل في احتواء «الدولة الإسلامية»، وهي كثيرة ولا تقتصر على أميركا وشركائها الغربيين، قد تمارس ما يكفي من ضغوط على الأرض لإرغام دمشق على القبول والرضوخ. يكفي أن تقوم منطقتان آمنتان من دون إعلان رسمي في الشمال والجنوب ليدرك النظام وحلفاؤه أن خصومهم قادرون على إلحاق هزيمة أوسع بهم… على غرار ما يجري في اليمن.

القاعدة التي رفعها دي ميستورا واضحة: الحرب على الإرهاب تتطلب تغييراً سياسياً في سورية. هذا الإجماع على مواجهة الإرهاب، لا يعني أن النظام السوري نجح في صرف خصومه نحو التركيز على قتال «الدولة الإسلامية» و «النصرة». أو أنه لا بد من التعامل معه لضمان نجاح هذه الحرب. هناك نموذج العراق. لم يتحرك التحالف إلا بعد تغيير رأس الحكومة نوري المالكي الذي عُدت سياسته وسياسة حكومته سبباً من أسباب قيام «دولة أبي بكر البغدادي». وتوكأ التحالف الدولي على الجيش العراقي وعلى قوات البيشمركة للإمساك بالأرض التي يخليها «داعش». وبالطبع ما أخر ويؤخر الحرب على هذا التنظيم في سورية هو غياب القوة التي يمكن أن تمسك بالمناطق «المحررة». رمى التحالف بثقله لكسر الهجوم على كوباني. عدّ وحدات «حماية الشعب» في المدينة الكردية قادرة على صون المدينة من الإرهابيين. وتحول هذا نموذجاً، يريد المسؤولون الأميركيون تعميمه. يريدون قوة على الأرض شبيهة بالقوى الكردية سواء في العراق أو في سورية.

والتعويل في هذا المجال على التحول التركي. التدخل العسكري لأنقرة لن يقتصر على ضرب حزب العمال الكردستاني. أولوية الرئيس رجب طيب أردوغان تختلف عن أولويات باقي أعضاء التحالف الدولي. هم يستعجلون التركيز على «داعش»، وهو يرى الأولوية لضرب حزب العمال، نظراً إلى انعكاسات ذلك على الأوضاع السياسية في الداخل التركي، سواء على صعيد المساعي لتشكيل حكومة ائتلافية أو التمهيد لانتخابات برلمانية جديدة يأمل حزب العدالة والتنمية أن يستعيد فيها أكثرية تؤهله لقيادة البلاد منفرداً. لكن أنقرة التي تلقت دعماً من واشنطن ومن حلف شمال الأطلسي، عليها عاجلاً مواجهة «داعش» إذا كانت جادة في توفير منطقة آمنة تخفف عنها عبء استقبال مزيد من اللاجئين، وتستجيب الحراك الدولي لتسوية سياسية. بالطبع لن تعول على العناصر التي تلقت تدريباً أميركياً. هؤلاء عددهم يكاد لا يذكر مقارنة بأعداد التنظيمين الإرهابيين وباقي الفصائل الإسلامية. وبات واضحاً أن حكومة أحمد داود أوغو اختارت تنظيم «أحرار الشام» قوة يعتد بها لإدارة المنطقة الآمنة. وروجت هذه لنفسها في الدوائر الإعلامية والسياسية الغربية قوة اعتدال يمكن الاعتماد عليها بديلاً يمسك بالمناطق الآمنة. وما الحرب التي تخوضها «جبهة النصرة» على باقي الفصائل في الشمال السوري سوى تعبير عن مخاوفها من نتائج الاتفاق التركي – الأميركي ومفاعيله على الأرض. لقد حاولت الجبهة طويلاً النأي بنفسها عن ممارسات «الدولة الإسلامية». وشهدت صراعاً داخلياً حقيقياً من أجل التوكيد على «سوريتها»، وبعدها حتى عن «القاعدة»، التنظيم الأم. وساعدتها في ذلك مواقف الدكتور أيمن الظواهري زعيم التنظيم. لكن قائدها أبو محمد الجولاني بدد تفاؤل المتفائلين بإمكان تلميع صورة الجبهة وتوكيد اعتدالها، في حديثه التلفزيوني الشهير إلى «الجزيرة» قبل مدة. لم يغادر خط «القاعدة». وهاجمت الجبهة أخيراً الفرقة 30 مشاة التي دربها الأميركيون كأنها تتحوط أو تستبق الحرب التي ستعلن عليها قريباً.

قيام المنطقة الآمنة قد يستغرق نحو ثلاثة أشهر. لن يستدعي الأمر تدخلاً عسكرياً تركياً على الأرض. سيكون الاعتماد على سلاح الجو، ويترك أمر الميدان للفصائل القريبة من أنقرة والرياض، وعلى رأسها «أحرار الشام». ويفترض أن تكون هذه الخطوة مقدمة لخطوة مماثلة في جنوب سورية بعد هدوء الصراع الخارجي على هذه الجبهة. ويفترض أن يواكبها أولاً وأخيراً تحرك سياسي جدي… وإلا تحول التدخل استنزافاً لتركيا، كما هي حال روسيا وإيران. لذا لم يكتف أردوغان بالتفــاهم مع الرئيس باراك أوباما. حظي في زيارته الأخيرة لبكين بدعم الصين. مثلما قرأ كثيرون صمت موسكو موافقة ضمنية على ما تقوم به حكومة داود أوغلو، ما دام الهدف ضرب «داعش» وليس قوات النظام السوري. ومعروف أن الكرملين، منذ تمريره القرار الدولي الذي شرعن حرب التحالف العربي في اليمن، يعطي فرصة واسعة للتفــاهم مع كل المعنيين من تركيا إلى دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. وهو بات مقتنعاً بأن لا حل في ســــورية مع بقاء الرئيس الأسد. لكنه بالطبع سيحتفظ بهذه الورقة حتى اللحظة الأخيرة من التفاوض مع البيت الأبيض وشركائه الأوروبيـــين والعرب. القيادة الروسية تعي جيداً أن مصلحتها التي تعتمد على الحفاظ على المؤسسة العسكرية أصيبت بنكسة في هـــذا المجال. لم يبق إلا القليل من هذه المؤسسة يعتد به. إيران هي التي تتولى قيادة العمليات. وأنشأت، كما فعلت في لبنان والعراق واليمن، ميليشيا رديفة تقوم مقام الجيش، وتتمتع بتسليح وتدريب وتمـــويل تفتقر إليها القوى النظامية. فضلاً عن أن روسيا لا تريد أن تحتفظ وحيدة أو مع إيران ببلد أو بجزء منه تحتاج إعادة بنائه وإعماره إلى مليارات الدولارات. وهو ما لا طاقة لها على تحمله. وحتى إيران لن تقوى على المساهمة في هذا المجال. لذا ترى موسكو مصلحة ضرورية في التفاهم على تسوية سياسية مع أميركا وأوروبا ودول الخليج. فهذه وحدها قادرة على تمويل إعادة البناء والإعمار.

روسيا إذاً معنية بالتسوية. وحتى إيران لن تكون بعيدة عن هذا التوجه، خصوصاً أنها ستكون مدعوة إلى «جنيف 3»، فضلاً عن الأعباء الجمة التي تتحملها في الساحة السورية. كما أنها لن تكون قادرة على مواجهة التدخل التركي مهما علت تحذيراتها. بل ربما طمحت إلى تقاسم بلاد الشام مع أنقرة. وهناك من يتوقع أن تطرح الديبلوماسية الروسية انتخابات برلمانية مبكرة يشارك فيها جميع السوريين بمن فيهم اللاجئون بعد حصولهم على الوثائق اللازمة. ثم تنبثق من هذه الانتخابات حكومة انتقالية تتولى إعادة النظر في الدستور والإشراف على هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية، بمشاركة فاعلين في هذه المؤسسات من دون استبعاد أحد حتى… أولئك «الملطخة أيديهم»، باعتبار أن كثيرين من هنا وهناك باتت أيديهم ملطخة. فضلاً عن أن الإصرار على هذا الشرط سيبقي الآلة العسكرية التي تشكل الدائرة الصغيرة المستفيدة من استمرار الحرب على سلاحها عقبة دون التوجه نحو تسوية. كما أن البحث عن ضمانات جدية للرئيس الأسد والحلقة الضيقة المحيطة به يشكل جزءاً من النقاش الدائر بين الروس والغربيين. وهناك توجه لمنحه ما حصل عليه الرئيس علي عبدالله صالح بعد تخليه عن صلاحياته لنائبه الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي، من دون أن يخسر حزبه حصته الوازنة في الحكومة الانتقالية التي رأسها محمد سالم باسندوه. توزيع سورية «محاصصة» بين مكوناتها والمتصارعين الخارجيين عليها، وحده يشكل ضماناً لتسوية بدلاً من تقسيم لبلاد الشام. هل هناك بديل من «محاصصة» في اليمن وسورية بعد العراق ولبنان؟ وهل يكون حظ الأسد أفضل من حظ علي عبدالله صالح؟

نقلا عن صحيفة الحياة

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button