في لحظاتٍ شديدة التوتر والإرباك والإنقسام المُنْهِك، يحاول جلُّ اللبنانيين منع مخاطر الانهيار التام والفوضى العارمة، ووضع حد للهزات الإرتدادية المباشرة .
بغضّ النظر عن ضخامة الكارثة، فإنهم في لبنان على قناعة متفاوتة اليقين، بأنها عنوانٌ لإهتراء المُجْلَسين في مقدمات الصفوف. وكاشفة لعجز المحاصصات الطائفية، عن أن تكون منهج حياة وطريقة عيش، وعن الخطو في طريق إصلاح تركيبة الدولة .
أخطر ما في المشهد اللبناني الآن، ليست الأساطيل التي تصول وتجول قبالته، بل التجاذبات المُحتدمة بين القوى السياسية المُتناحرة هناك. والتي تعيد فرز اللبنانيين، لا على قاعدة الكارثة أو الطموح، بل وفق تضارب المحاصصات التقليدية الوقحة إياها .
أما في الشق الدولي من المشهد، فهناك زحمةٌ بين موفدي المصالح الخارجية. يمارسون في أزقة السياسة اللبنانية، أنشطة فظة ذات منحى تعبوي خطير . ظاهرها التعاطف مع لبنان المنكوب، والتركيز على إجراء إصلاحات مؤسساتية ضرورية، تُطَوِّق الواقع السياسي الحالي، تمهيدا لطيِّ صفحته، وكواليسها مفخخة بملفات تستثمر نتائج الكارثة، تعمل على إيقظ الذهنية الاستحمارية وتفعيلها وتعميها، من أجل دفع الناس لقبول مشروع الحماية. تمهيدا لفرض وصاية دولية على لبنان، تنهي عمليا هويته العربية، وتعمل على تحييده إقليما، وعلى الأقل في الصراع العربي الصهيوني .
لا يمكن لمتبصر في أبجديات السياسة، أن يفصل بين حركة الموفدين الدوليين، وغارات التصعيد التي تشنها خلطة شوارعية ممن امتهنوا تفسيخ الدولة . يبدو أن مصيدة «إنفجار الاهمال الملتبس» ، قد أسعفت ظن هؤلاء ، بأن الظروف قد باتت مواتية لتدويل لبنان، عبر ممرات مشبوهة، منها ممر المطالبة بهيئة دولية للتحقيق، ومنها القول بحاجة لبنان، لحماية دولية مباشرة، تعيده إلى وصاية مباشرة، تدير شؤونه .
هل ما نشاهده من فساد مستعص على الاصلاح، مُخَططٌ لتكفير الشعوب بأوطانها، واستجداء حمايات ممن سبق ونكَّل بِها ؟! هل وصلت الشعوب حقّا إلى قناعات قطعية، بأن المستعمر المباشر أفضل بكثير من وكلائة المحليين ؟!
ما طالب علانية به، بعض اللبنانيين المُحْتَسِبين أنفسهم على حقٍّ، أوالمؤمنين بالصمت القوَّالِ، مُوجع ومُحزنٌ . وللأسف الشديد يكاد أن يكون حالة عامة في الوطن العربي برمته . كلُّ المعايير تُبرِّر لنا توصيف ما نحن فيه من كيانيات سياسية، بالجحيم المُقرف . وإلاّ مَنْ مِنّا في أسوأ كوابيسه ، كان يتوقع وصول الكثير منَ الناس إلى هذا الوضوحِ في المطالبة بعودة الوصاية والتماهي مع بعض ما تقول به كلاب الصيد المتصهينة ؟!
هذه الانتكاسات الفاضحة في الوعي الفردي والجمعي، قبل أن تكون كاشفة لأوهام الهياكل والدكاكين والمنظمات الحزبية، بكل تلاوينها الأسرية والقطرية والقومية والدينية والشيوعية والاشتراكية واللبرالية . هي كاشفة بامتياز فاضح ، لسقوط صريح للنظم التربوية والثقافية والأخلاقية والإيمانية الفاشلة عبر السنين .
وإلاّ كيف نفسر طوابير الناس، أمام الشياطين الزرق في السفارات الأجنبية، طلبا للإبتعاد عن ضباعِ الجوع ومخالب الاستقواء وأنياب الاضطهاد، في جحيم أوطان عقيمة مُهَشَّمَةٍ ؟! إنْ لَمْ يكن ظَنُّهم أنَّ المستعمر المباشر، بات أرحم بهم من وكلائه المحليين . أيَتوقعُ عاقلٌ مُتبصر، من عربيٍّ عاطلٍ عن العمل، مُهَمَّشٍ مُحبطٍ، مقهورٍ مغلوبٍ على أمره، أن يرفض جنسيةً أجنبية قد تُعرضُ عليه؟!
إفتعال هذا التأزيم في العيش الكريم وأجوائه، والمُماطلات والسَّقطات والإخفاقات في معارجه، محطاتٌ مقصودةٌ مُبرمجةٌ، لإيصال كثرة منَ الناس، إلى شفير اليأس الحالك والعَوَز المُذلِّ، ومِنْ ثمَّ الالتفافَ على وعيِهم والضغطِ عليهم، لتحقيقِ خضّاتٍ في حصاناتهم الوطنية والقومية، وإرباك أولوياتهم، وحرفِ سجالاتِهم عن المسارات الجمعية للوطن، لتصبح تسوُّلا لوصايةٍ دولية وإن توَحَّشَت .
مؤسف أنَّ هناك بيننا، من بات يرى في المستعمر رحمة وعدالة، ليست فيه على الإطلاق . قافزا بعشوائية ساذجة، فوق حقائق التاريخ القريب والبعيد . وحقائق الحياة في عالم اليوم . فلو تلفَّت هؤلاء من حولهم، دون مُغالطةٍ مِنْ كيدٍ طائفي أو حقدٍ مَذهبي أو التماس أعذار سياسية ، فإنهم سيرتطمون حتما، بالكثير من المضحك المبكي، في بلاد ما بعد الغزو الأمريكي ، المباشر أو غير المباشر لها . لن يجدوا بين ورثة العهود السابقة في تلك البلاد حكما رشيدا ، بل مئات الدكاكين والآلهة والأصنام الجدد ، انتفعت من تهشيم أوطانها وهتك أعراض ناسهم .
في مواجهة أؤلئك المستغربين، هناك لحسن الحظ ملايينٌ من الناس، ذات قناعة شعبية وطنية عارمة، تعلن صبح مساء: بأن الضعف مرحليٌّ عابرٌ ، وليس قضاءً وقدراً . وأن لا بد من الصمود ومواجهة ما تحاول تمريره الضغوط الدولية الكبيرة ، وكلاب صيدها المحلية، في الكواليس السياسية كحاجة . وأن النهوض للإصلاح والبناء الذي يحصن البلد ، كما فعلت ماليزيا وسنغافورة ضرورة وأولوية . دون التصرف وكأن شيئا لم يحدث . فقد سقطت الاقنعة عن النظام التحاصصي المقيت، وأن وقت الإطاحة بقتلة الشعب ومحاسبتهم قد حان.
وطنٌ كلبنان لم يعرف إلا العشوائية السياسية بتأسيسه، والعشوائية الإدارية باستمراره . إذا لم يكن هناك تعريف موحد لماهية الوطن وقضاياه وأعداءه ، فلن يتم بناء دولة مدنية عادلة فيه . ولنْ يتم بناؤها إلا بمواطنة جامعة أولا ، تُنْتجُ بالحوارِ الجدي المُخلص ، إنصهارا مجتمعيا بدل الانقسام السائد . تكون هي المدخل الحتمي لإسقاط علة العِلَل وسبَبَ كلِّ فشل في لبنان ، نِظامَ المحاصصة المقيت ، وتبادل الخدمات والحمايات ، وحجب دور الدولة .
في بلد منكوب ، ووضع سياسي مُتآكلٍ ، واقتصادي حرِجٍ ، كالذي يعيشه لبنان ، يُصبح واجباً الخوف على سيادته . فالدول التي قررت المساعدة ، ليست في وارد تقديم شيكات على بياض لأحد ، بل مساعداتٍ بالقطارة ، مُثقلةٍ بألف شرط وشرط.
لبنان أمام مرحلة وجودية ، الترقُّب فيها سيد الموقف . من الضروري تقليل حدة الانفعالات والتشنجات ، وتوسيع هوامش الهدوء ، وتأمين استقرار أمني ومعيشي ، بين أناس لم يعد أحد منهم بقادرعلى إلغاء أحد . ولا الوقوف وحده في مواجهة الجميع .
الحيطة والحذر واجبين ، أمام طابور ممن امتهنوا تفسيخ الوطن والدولة . لا بد من إبقاء الأولويّة لمنعهم من المزيد من التهديم وإشاعة الفوضى . والتذكر دائما : بأن الطوفان لا يولد إلا من رحمٍ فَشلٍ مُجرمٍ ، ودموعِ أبرياءِ الضحايا .
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية