قبل ربع قرن من هذا اليوم، ارتكب صدام حسين حماقته الكبرى بغزو دولة الكويت. كانت لحظة تاريخية فاصلة بين ما قبلها وما بعدها، لحظة ألقت بثقلها على مسيرة الحاضر والمستقبل، لحظة كشف سقط فيها الزيف. دول وأحزاب وجماعات وشخصيات تعرّت في تلك الملحمة الكبرى، وأصنام من عجوة الوهم أكلها السدنة، وثلوج من الأساطير ذابت تحت شمس أغسطس (آب) الحارقة. أفكار وشعارات ومفاهيم، بدورها، تبخرت لذرات الدجل، وبان عند احتدام الشدائد ومضايق الأزمات من هو الصديق والعدو، من هو الجدار الصلب الذي يحمي، ومن هو الفخ الذي يهرب عند أول امتحان. ميزة مثل هذه الأحداث أنها تؤسس لوعي جديد، ورؤية سياسية مختلفة، أو هكذا يفترض بها.
أدرك أهل الخليج، خصوصا أهل الكويت، أن التحالف الخليجي هو تحالف مصيري وجودي، لا غنى لدولة عن دولة أخرى من دول الخليج، وأن الأمن الخليجي كل لا يتجزأ، وأن العمق الحقيقي هو في شواطئ الخليج وصحارى الجزيرة العربية وجبالها. من أكبر الأوهام التي سقطت هي أن العرب سيتّحد بعضهم مع بعض، وأن القومية العربية الوحدوية هي «حتمية تاريخية»، فقد ابتلع القائد العربي البعثي القومي صدام حسين كل هذه الترهات، وأتى الغدر والخطر من أكثر متحدث عن القومية العربية ومنظّر لها. سقط أيضًا وهم الوحدة «الإخوانية» الإسلامية، بصورتها الحزبية أعني، التي تقتضي الوحدة السياسية والفكرية والمفاهيمية، كما يروج لها خطاب الإخوان، إذ انحاز جزء كبير من الإخوان لصالح صدام حسين، خصوصا في الأردن والمغرب العربي، وكانت مرارة للتنظيم الإخواني النشط في الكويت، وقد كتب عن هذه المرارة من إخوان الكويت كتبة مثل مبارك الدويلة وإسماعيل الشطي.
تلك الكارثة، كشفت أيضًا عن طبيعة التحديات في الجبهة الداخلية السعودية، إذ انتهز كثير من صناع الفتنة والإرجاف من الصحويين والنشطاء الفرصة لإثارة الاضطراب، وصورت لهم أوهامهم جبالا من الترهات السياسية، فكانت أشرطة كاسيت مثل «فستذكرون ما أقول لكم»، و«ففروا إلى الله» و«القوى الضالعة في المنطقة»، وسعى المرجفون في لحظة سعودية خطيرة لبث الهلع وتثوير العواطف الدينية الحماسية من خلال تصوير القوات الدولية لتحرير الكويت، بوصفها قوات صليبية ومخطط غزو واحتلال، وكلنا نتذكر جيدا ماذا قيل تلك الأيام. هل يعني هذا أنه قد تم استيعاب عبرة الغزو الصدامي والانقسام العربي والإسلامي، في داخل الكويت والسعودية، مثلا، بوصفهما الدول المحورية في ذلك الحدث؟
في الكويت عرف الناس هناك أنه لا خيار لهم إلا دولة الكويت بشكلها الأميري الصباحي والعلاقة الدستورية بين أهل الكويت وحكامها، وكان مؤتمر جدة الشعبي تفويضا جديدا للشرعية الكويتية الداخلية.
في السعودية كانت بداية لتصور جديد عن الجماعات الإسلامية، وقال الأمير نايف، رحمه الله، بعد ذلك: «لقد غدر الإخوان بنا».
ما زلنا نقرأ عبر تلك اللحظة، وربما لم يتم استيعابها كلها حتى الآن.
m.althaidy@asharqalawsat.com