ليس فقط أحد أكبر أساتذة الفلسفة الإسلامية في مصر والعالم العربي، لكنه بحق أحد رهبان الفكر الذين ضحوا بحياتهم الشخصية فرفض الزواج والاستقرار طوال حياته واختار أن يكون خادما أمينا للفلسفة. قدم للمكتبة العربية عشرات الكتب النقدية الرائعة قضيته الإنسان وحقه في التعبير عن رأيه بحرية كاملة.
الدكتور عاطف العراقي، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة موسوعة علمية وُلد فى 15 نوفمبر 1935 فى محافظة الدقهلية، و حصل على ليسانس الفلسفة من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1957، ثم حصل على دبلوم كلية التربية من جامعة عين شمس عام 1958، وبعد ذلك حصل على ماجستير فى الفلسفة من كلية الآداب جامعة القاهرة، عام 1965، ثم دكتوراه فى الفلسفة عام 1969.
شغل العديد من المناصب وحصد العشرات من شهادات التقدير وقام بتأليف وتحقيق وترجمة مئات الكتب، وأشرف علي بعض الكتب التذكارية لأعلام الفكر والثقافة، كما أشرف علي مجموعة كبيرة من الرسائل العلمية، وشارك في العديد من المؤتمرات ببحوث قيمة، وقام بالتدريس في معظم جامعات مصر وبعض جامعات الدول العربية الشقيقة، ونشر العديد من المقالات داخل مصر وخارجها، وأعدت مجموعة رسائل علمية عن فكره، وهناك ثلاث جوائز تحمل اسمه تمنح لأوائل أقسام الفلسفة في جامعتي القاهرة وعين شمس، و(العراقي) عاش مهموما بالفكر العربي وقضاياه، عاشقا لابن رشد وفلسفته، ومات فى محراب العلم.
ومن أعماله
«النزعة العقلية فى فلسفة ابن رشد »، الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا، مذاهب فلاسفة المشرق، تجديد فى المذاهب الفلسفية والكلامية، ثورة العقل فى الفلسفة العربية، الميتافيزيقا فى فلسفة ابن طفيل، المنهج النقدى فى فلسفة ابن رشد، العقل التنويرى فى الفكر العربى المعاصر، تحقيق كتاب الأصول والفروع لابن حزم.
وحول ابن رشد المظلوم حيا وميتا لن نجد أفضل من الدكتور عاطف العراقي للتحدث عنه وهو الذي كرس حياته لدراسة أفكاره وأخذ علي نفسه عهدا بنشر آرائه عن طريق مجموعة كبيرة من الكتب والأبحاث والدراسات والندوات والمحاضرات ولا يجد أي مناسبة إلا ويذكر حضوره بمعشوقه الأول والأخير.. قال عنه: ابن رشد فيلسوف أندلسي يسمي أبوالوليد حتي يمكن التفرقة بين ابيه وجده لأن كل منهما كان يشغل بالفقه ويطلق عليه باستمرار لفظ «الحفيد» وآخر فلاسفة المغرب العربي الذي أنجب لنا طبقا للترتيب التاريخي ثلاثة عظماء هم: «ابن باجة»، ابن طفيل، «ابن رشد» الذي جمع بين كونه فقيها وصل إلى أخطر المناصب في بلاد الأندلس وهو «قاضي القضاة» والطب الذي ألف فيه كتاب «الكليات في الطب» ترجم إلى أكثر من لغة عالمية، والفلسفة التي ألف فيها العديد من المؤلفات أشهرها «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«تهافت التهافت» و«مناهج الأد لة في عقائد الملة».
ومازال مجد ابن رشد الحقيقي قائما في الغرب حتى الآن خاصة أوروبا متمثلا في شرحه لأرسطو حتى أنه في جميع المعاجم الأوروبية يطلق عليه لفظ «الشارح» أي الشارح لكتب أرسطو وهو ثلاثة أنواع من الشروح: الشرح الأصغر، الشرح الأوسط، الشرح الكبير، وأوروبا تعتبر بأنها عرفت كتب أرسطو وفلسفته من خلال هذه الشروح ثم ترجمت أكثر هذه الكتب لأكثر من لغة ولذلك نجد تماثيل ابن رشد تملأ متاحف أوروبا.
وقدم ابن رشد العديد من الآراء والنظريات والأفكار التي مازالت صالحة حتى الآن بل نحن في أمس الحاجة إليها في يومنا هذا وما تراجع فكرنا العربي إلا بسبب ابتعاده عن أفكار ابن رشد، وفي يقيني أنها لو طبقت لتقدم العرب أكثر من أوروبا، ولكن نحن ظلمنا ابن رشد حيا وميتا وأهملنا تلك الموسوعة المعرفية التي جمعتا الفقه والطب والفلسفة في قلب رجل واحد يقف علي قمة عصره من حيث الفكر النقدي، ولو كان العرب قد تمسكوا بهذا الفكر لأصبح الحال غير الحال، لأن الفكر النقدي يحارب الخرافات والأفكار الخاطئة، وكان ينبغي علي العرب أن يفخروا بأن أمتهم أنجبت واحدا من أربعة فلاسفة علي مستوي العالم يقفون علي قمة عصورهم هم أرسطو في الفلسفة اليونانية وابن رشد في الأمة العربية، والقديس توما الاكويني في الفلسفة الغربية في العصور الوسطي وأخيرا الفيلسوف الألماني «كانت» وجميعهم يعتمدون في أفكارهم علي التنوير، ومن المعروف أن النور يؤدي إلى الأمان والظلام يؤدي إلى الخوف والتراجع.
وابن رشد بفلسفته التنويرية كان سابقا عصره، لأن فكرة التنوير لم تكن واضحة المعالم عند المفكرين والفلاسفة قبله، وقد عاني في سبيل ذلك الكثير وتعرض لأبشع أنواع الظلم حيا وميتا عند محاكمته وإحراق الكثير من كتبه ونفيه إلى خارج قرطبة لم يبق من كتبه إلا القليل الذي نجح البعض في تهريبها، وكان نفيه إلى بلدة «اليسانة» والتي يقطنها اليهود والذين زعموا بعد ذلك أنه منهم وحين رجع من المنفي ظل منبوذا ومحبوسا داخل منزله حتى وفاته ودفن مؤقتا بمراكش ثم حمل جثمانه إلى قرطبة على دابة وشهدها الصوفي الكبير ابن عربي.
والغريب أن «العراقى» حوكم بسبب ابن رشد الذى عشقه.. يقول عن المحاكمة: هي مأساة ومعركة كان سلاحي الوحيد فيها القلم والغريب أن التهمة كانت «التفكير» وانتهت بوقوفي أمام محكمة جنايات المنصورة في الخامس عشر من مارس 1995 وكانت أول محاكمة في التاريخ العربي لأستاذ تخصص في الفلسفة وكأني أصبت بلعنة ابن رشد ولكن ذلك لم يثنني عن مواصلة عشقي لهذا الفيلسوف العظيم.
ونكمل فى الحلقة القادمة إن شاء الله
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية