نون والقلم

د. يوسف بن مير يكتب: بناء تعريف التنمية

إن فكرة التنمية نفسها وتعريفها، وحتى الطريقة التي نستخدمها لتحديدها، ستكون مكانًا جيدًا للبدء في اكتشاف إمكاناتها في حياتنا. لا يمكننا الإعتماد على أي تعريف واحد أو حتى عشرة تعاريف. نحن بحاجة إلى النظر في المجموعة الكاملة من الأدب الذي نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإنهاء الاستعمار وإعادة الإعمار منذ أن نشأت التنمية الدولية في عصرنا. كيف تم تعريف التنمية عبر العقود ؟

إحدى الطرق التي يمكن من خلالها تنظيم هذه المعلومات هي من خلال النظر في التفسيرات لماهية التنمية – بعضها موجز وبعضها مختصر –  وأخذ هذه الجمل القليلة ووضعها في ملف وبناء قاعدة بيانات لأوصاف التنمية. أخذت مني هذه العملية مئات من الصفحات و آلاف من الكتب أو المؤلفين التي يمكن أن تساعد المرء على فهم ما هي التنمية.

الخطوة التالية هي تقسيم التعاريف إلى مكوناتها. لديك صندوق للتنمية من حيث علاقته بالإقتصاد. آخر يتعلق بالجوانب الاجتماعية. وهناك موضوع آخر يتعلق بالجانب السياسي للقضية ، وآخر يتعلق بالجغرافيا. ستشمل المكونات الأخرى التغيير والنمو و المعالجة. عندما تقوم ببناء قاعدة بيانات للمعلومات وتقسيم المفهوم إلى عناصره ، فأنت في وضع يسمح لك بتحديد المصطلح بناءً على نطاق عناصره الأساسية.

يمكنك توسيع هذه الطريقة لتشمل جوانب أخرى من حياتك وعملك و التي آمل أن تثير شغفك. سيكون تحديد أو تعريف المصطلحات ضروريًا لإنشاء أساس للبحث والتحقيق والتحليل والفهم والتعليم والتدريب. وفي استقصائي الخاص باستيعاب جميع الأدبيات الممكنة في مجال التنمية التي ظهرت من الخمسينيات حتى سنة 2011 ، حيث تحولت معظم طاقاتي من الدراسة الأكاديمية إلى ممارسة التنمية في المغرب، يمكنني أن أشاطر ما جمعته. يمكن أن تكون إحدى نتائج الدراسة المخصصة صياغة تعاريف جديدة تم خلقها من خلال إشتقاقها من جميع «سلال» الأجزاء المفككة والمنظمة ثم إعادة تجميعها في تعاريف العمل.

ما نجده مع كل هذه الكلمات – التنمية ، التمكين ، الاستدامة والمشاركة – هو أن هناك اختلافات كبيرة ونقص في الإجماع في معناها مع تأكيدات مختلفة تمامًا اعتمادًا على السياق. هناك أيضًا بعض الكلمات الأخرى – مثل التقدم ، التغيير ، الحركة ، التعبئة والإجراء ، الذي لا يمكن التنبؤ به ومتعدد الأبعاد التي تظهر مرة أخرى عندما نناقش التنمية. إن عدم القدرة على التنبؤ لا يعني أنه لا يمكن السيطرة عليه أو لا يمكن التحكم فيه ، بل يتطلب المرونة أو القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة باستمرار.

ماذا نعني عندما نقول «متعدد الأبعاد»؟ ماهي هذه الأبعاد؟ اقتصادية ، بيئية ، ثقافية ، اجتماعية ، سياسية ، تكنولوجية ، مالية ، تاريخية ، وفيزيائية إيكولوجية – هذه جميعا تم تحديدها على أنها عناصر من التنمية مع الإدراك بأنها تلامس كل جانب من جوانب الحياة المجتمعية أو مجمل حياة الإنسان. كما تحدد تجارب التنمية جانبًا روحيًا  يرتبط بالعالم مدركا ً بأن تأثير التنمية هو أيضًا داخلي وإدراكي. هذه الأبعاد تحيط بحياة مجتمعنا وهي داخل نسيج ما يتعلق ببعضنا البعض.

منذ العقود الأولى وحتى اليوم ، كان «التحديث» هو المنظور الأساسي للوصول للتنمية. وتختبر جميع المجتمعات أو تحتاج إلى أن تختبر هذا التقدم الخطي المعتمد من النقطة A إلى النقطة B كجزء من عملية تنميتها. يحتاج الإقتصاد الفلاحي إلى أن يكون منتجًا لدرجة أنه يمكن أن يطعم سكانًا حضريين متزايدين حتى يتمكن الناس في المدن من التصنيع ويكون لديهم صناعة. وإذا كنا في المغرب أو في أي مكان آخر ، فإن تقدم التحديث – على الأقل حسب وجهة نظره – ضروري للتنمية.

 عندما نتحدث عن تنمية لا تدعم هذا النموذج – أي أنه ليس A ، B ، C ، D ، E للجميع. فما يصلح لك قد لا يصلح لنا وقد يؤذينا بالفعل ويزيل استقلاليتنا ولا يسمح لنا ببناء اقتصادنا حسب خياراتنا وقدراتنا وفرصنا الزراعية. لا يأخذ في الإعتبار أوضاعنا الجغرافية والبيئية وتاريخنا وثقافتنا وتقاليدنا والتحديث الصارم غالبًا ما يكون مصدرًا لفقرنا. التنمية التي تحاول معالجة هذه الصلابة تسمى «بديلة» أو مثيرة للجدل أو حتى متناقضة سياسيًا.

يجب أن يشمل تعريفنا للتنمية النمو والتوسع وتلبية الإحتياجات البشرية. ومع ذلك ، هناك اختلافات عميقة بين المجتمعات المختلفة حول كيفية تحقيق هذه الأشياء وكيف تبدو طبيعة ونوعية وخصائص النمو. هذا هو السبب في صعوبة تحديد تعريف واحد. يُحكم علينا ألا نكون ملائمين تمامًا في تعريفنا. يمكن أن تكون أشكال التنمية متضاربة. لا يمكن أن يكون لدينا التصنيع الكامل في البلدان النامية بناءً على المنتجات المطلوبة في البلدان المتقدمة ونتوقع نفس النتائج على جميع جوانب التبادلات. قد يخلق نموذج التحديث تكلفة تتحملها البلدان النامية / الأقلّ صناعية لأنها ستنمو فقط كانعكاس للطلب في البلدان المتقدمة.

ومنذ ولادة التنمية  كان هناك دائمًا نهج بديل يرفض التحكم الخارجي الذي تجلبه الوصفات السائدة ويؤكد بدلاً من ذلك على التقوية الداخلية (والتنويع) والتغيير المدفوع بالناس. واليوم هو المعيار لتعزيز مشاركة الناس – في المغرب ، هذا هو القانون – لكن وجهة النظر هذه لم تكن مألوفة ولم يوثق بها من قبل أولئك اللذين في التيار الرئيسي الذين إعتقدوا أنها تضع مجموعات من الناس في مناصب لاتخاذ قرارات لم يكونوا مجهزين لاتخاذها. والنتيجة وما ستحشده مشاركة الجمهور كان موضع خوف وشك.

من الذي سيستفيد من التنمية وتحسين نوعية الحياة من خلال التعبئة والعمل والتغيير وعملية متعددة الأبعاد لتحسين جميع جوانب الحياة البشرية ؟ الهدف هو كل الناس أو معظمهم ، ولكن بشكل خاص الأشخاص الذين يعانون من الفقر والتهميش. سيتعين علينا دائمًا اتخاذ الخيارات لأن الميزانيات ليست بلا حدود. ومع ذلك ، عند اتخاذ الخيارات، فإننا نركز على الأشخاص المحرومين والمعوزين والبعيدين – أفرادا ً وجماعات. ليس فقط في المغرب، ولكن في جميع أنحاء العالم يتركز معظم الفقر في المناطق القروية، وضمن هذه المواقع عادة ما يكون أعلى معدل للفقر في المناطق الجبلية والجافة.

إذن ، ما هو تعريف التنمية الذي توصلنا إليه بعد مراجعة الأدب والتحليل إلى أجزاء وإعادة تشكيل هذه العناصر إلى شيء عملي؟ إنها عملية تضع في اعتبارها عوامل التخطيط الإقتصادية والسياسية والمؤسسية والثقافية والبيئية والتكنولوجية لتحقيق هدفها المتمثل في خلق فوائد ومنافع في هذه المجالات الموجهة للجميع أو لغالبية الناس، وخاصة أولئك الذين يعانون من الفقر.

وإذا مررنا بهذه العملية معًا عبر مناطقنا فسوف نكون في وضع رائع لإدارة الصحة العامة في فترة الوباء. سنكون في وضع يمكننا من تشجيع الحوار الهادئ في مواجهة الإضطرابات والظلم الرهيب. سوف نفهم كيف يمكننا أن نحكم بشكل فعّال ونقوم بحملة للحكم واستنباط استثمارات البنية التحتية لتحقيق أقصى عائد على مستوى المجتمع والإدارة والفوائد المشتركة على نطاق واسع ولتوجيه علاقاتنا التجارية التي تركز على الاعتماد على الذات وأسواق التكتلات الإقليمية والمشاركة العالمية و معالجة الأسباب الجذرية لعمل الأشخاص غير المرضي والترابط فيما بينهم. ولمواجهة الوقت الذي نحن فيه بأفضل طريقة، ليس هناك إلحاح فوري وطويل الأجل أكبر من عملية التنمية التي تتطلب الإدماج.

 عالم إجتماع ورئيس مؤسسة الأطلس الكبير، وهي مؤسسة أمريكية – مغربية غير ربحية مكرسة للتنمية المستدامة في المغرب.

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
 t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى