رغم أن الاستراتيجية القومية الإسرائيلية، والعقيدة الدينية اليهودية، تتفقان كلياً على دولة إسرائيل القوية المتفوقة، ذات السيادة الكاملة على أرض إسرائيل التاريخية أو إسرائيل الكبرى، وتريدان دولةً خالصةً لليهود نقيةً خاليةً من الأغيار، إلا أن هذه المفاهيم المشتركة والأهداف الكلية والغايات البعيدة، لا تنفي وجود خلافاتٍ حقيقية وجذرية في المجتمع الإسرائيلي لجهة ضم أراضٍ فلسطينية بصورة قانونية، وتوسيع مناطق السيادة الإسرائيلية، والشكل الذي سيتم فيه التعامل بعد الضم مع مختلف الأطراف الفلسطينية والعربية والدولية عموماً والأوروبية خصوصاً.
ولهذا يبدو المجتمع الإسرائيلي وحكومته تجاه مشاريع الضم السافرة، مختلفاً مضطرباً غير موحدٍ، ومشوشاً مختلاً غير متزنٍ، ومتردداً مرتعشاً غير حاسمٍ، وخائفاً قلقاً غير مطمئنٍ، إذ يحتدم الجدال الداخلي بينهم، ويتفاقم الاختلاف وتتعالى الأصوات بين نخبهم العسكرية والأمنية والإعلامية، وتتباين آراؤهم وتتعدد توجهاتهم، على خلفية الأفكار الحكومية والمقترحات الأمريكية، سواءً لجهة مبدأ الضم أو توقيته وكميته، أو الطريقة التي سيتم بها، حيث تبرز أمامهم مجموعة من التساؤلات والتحديات، التي يرى فريقٌ منهم أنها خطرة جداً، وتستحق التروي والتأمل، والتفكير الجدي قبل اتخاذ القرار المصيري بشأنها، ويحذرون حكومتهم أن التغاضي عنها أو إهمالها وغض الطرف عنها، سيعود بالضرر الكبير على «دولة إسرائيل وشعبها».
يفضل فريقٌ كبيرٌ من الإسرائيليين الضم الواقعي على الضم القانوني، ويرون أن الضم الواقعي هو الضم الحقيقي، الذي يحقق أهدافهم ويلبي شروطهم، ويقلل إلى درجة كبيرة من أعبائهم ومسؤولياتهم، ويقلص حجم الاعتراضات الدولية عليهم، وهو ما قامت به الحكومات الإسرائيلية فعلياً منذ العام 1967، حيث ضمت بصورة الأمر الواقع مساحاتٍ كبيرة من الأراضي الفلسطينية في القدس و الضفة الغربية، وبنت فيها عشرات المستوطنات، وأقام فيها مئات آلاف المستوطنين اليهود، الذين يخضعون في كل شؤون حياتهم للأحكام الإسرائيلية، ويرتبطون عضوياً ويتصلون فعلياً بالقدس وبجميع البلدات الإسرائيلية، وقد يستمر هذا الواقع إلى ما لانهاية، إلى أن يخضع الوضع الراهن إلى المفاوضات والحوار المباشر مع السلطة الفلسطينية.
يرتكز هذا الفريق في موقفه على نصوص الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية، التي أقر فيها الفلسطينيون مبدأ الضم، وسكتوا عن النوايا الإسرائيلية بشأن المستوطنات الكبرى، رغم أنه لم يتم في حينها حسم نسبة الضم وطبيعة الأراضي البديلة، لجهة المكان والمساحة، إلا أن مبدأ الضم كان مطروحاً، وإن كان على أساس تبادل الأراضي وإزاحة الحدود، وعليه فإنهم يفضلون الضم بالتراضي والاتفاق بين الطرفين، لا بالقوة والقهر من جانبٍ واحدٍ.
ويرون أن استمرار الضم الواقعي إلى حين تحقيق الضم بالتراضي والتوافق، أكثر أمناً وأقل كلفةً مادية ومعنوية، كون السلطة الفلسطينية تتعامل مع الجانب الإسرائيلي على أساس هذا الواقع، الذي قد ترفضه ولا توافق عليه، لكنها لا تقدم على عملٍ مضاد أو ردات فعلٍ شديدة لمواجهته والتصدي له.
الضم القانوني الذي لن تختلف مفاعيله الداخلية في الدولة عن الضم الواقعي، سوى في البعدين المعنوي والقانوني، سيهدد الأمن القومي الإسرائيلي، وسيعرض البلاد إلى هجماتٍ جديدةٍ، ومواجهاتٍ قاسيةٍ، وربما انتفاضاتٍ مختلفة يشارك فيها عناصر ومسؤولون من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، تماماً مثل انتفاضة العام 2000، وهو الأمر الذي من شأنه أن يدخل الجيش المأزوم مالياً بسبب تأخر إقرار ميزانية الدولة، في أزماتٍ ماديةٍ حادةٍ بسبب عجزه عن توفير الإمكانيات والتجهيزات المطلوبة لمواجهة تحديات المرحلة.
يحذر هذا الفريق الإسرائيلي الكبير، الذي يتشكل من لفيفٍ من ضباط الجيش والأمن الحاليين والسابقين، ومن عددٍ غير قليل من المسؤولين السياسيين والإعلاميين والاستراتيجيين الكبار، من تداعيات الضم القانوني على الأمن العام على الحدود الشرقية وصولاً إلى العراق، إذ لن تتمكن الحكومة الأردنية من ضبط الأوضاع على طول الحدود وعمقها، في حال اضطربت الأوضاع الداخلية في الأردن، وسادت الفوضى والاضطراب نتيجة الغضب بسبب الإجراءات الإسرائيلية.
يعتقد فريقٌ كبيرٌ من الإسرائيليين أن الضم الواقعي يحقق أمن إسرائيل الفعلي، ويؤمن حدودها وسلامة مواطنيها، ويبقي على التنسيق الأمني مع الجانب الفلسطينى، ويحافظ على علاقات التعاون وحسن الجوار مع الأردن، الذي قد يهدد بإلغاء اتفاقية وادي عربة في حال إصرار الحكومة على المضي قدماً في إجراءات الضم.
وعليه فإن مبررات الضم القانوني برأيهم غير حقيقية، ولا مكان لها في سلم أوليات الجيش والأمن، الأمر يعني قطعاً، أن دوافع نتنياهو من الضم هي شخصية وقومية ودينية، وتتعلق به شخصياً أكثر مما تتعلق بالشأن الأمني الإسرائيلي العام، ذلك أن نتنياهو يريد أن ينهي حياته السياسية في رئاسة الحكومة، قبل أن ينتقل إلى رئاسة الدولة أو السجن أو البيت، بعمل كبيرٍ يقدمه لشعب إسرائيل، يجعل منه زعيماً سياسياً وقائداً وطنياً، يحفظه التاريخ وتذكره الأجيال.
كما أن الضم الذي سينهي التنسيق الأمني أو سيضعفه، فإنه سيقضي على أي فرصة للتسوية السياسية مع الفلسطينيين، كونه يقضي على آمال حل الدولتين، إذ سيجعل من المناطق الفلسطينية بؤراً سكانية متفرقة ومتباعدة، لا يمكن لأي إطار سياسي أن يجمع بينها، وبالتالي فإن هذا الإجراء قد يقود إلى حل السلطة الفلسطينية، وإلغاء اتفاقية أوسلو، ما يعني عودة إسرائيل إلى الواقع القديم، مع ما يترتب عليها من مسؤولياتٍ دولية وتبعاتٍ أمنية، ونفقاتٍ ماليةٍ كبيرةٍ، سواء لتوفير الخدمات للفلسطينيين، أو لزيادة ميزانية الجيش والأمن للقيام بالمهام الجديدة الموكلة إليهم.
هذا يعني زيادة عديد الجيش، واستدعاء الاحتياط، واستحداث فرق حرس حدود جديدة، والانشغال عن الحدود الشمالية التي يتعاظم فيها خطر حزب الله، والاستعداد لعملياتٍ أمنية فردية تشبه عمليات الذئاب المنفردة التي أرهقت كاهل الجيش والأجهزة الأمنية، والتي تنوعت كثيراً وفق المبادرات الفردية بين الدهس والطعن والقنص وغيرها.
يتبع …
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية