نون والقلم

طارق تهامى يكتب: لسنا فى رحلة عابرة

الوفد ليس رحلة عابرة، وليس منزلاً مؤقتاً، تتركه بعد وقت قصير، دون ذكرى، دون انتماء لأرضه، ودون حنين لرائحة حوائطه، ووجوه الجيران الذين يرتبطون معك بفكرة الانتماء لسنين طويلة قضيتموها تحت نفس الظروف، حلوها ومرها، عسلها وبصلها، وتتذكرون معاً نجاحاتكم وإخفاقاتكم.. فالوفد مثل البيت الدائم الذي تربطك به فكرة الديمومة التي تعتمد على التراكم والاستمرار، ودونها لا يصبح الوفد وفداً، ولا المنتمي له وفدياً.. وهذا هو الفارق بين الوفد وغيره.. فنحن استقرار واستمرار، وهذا هو سر البقاء مائة عام من السياسة والنضال!!

أنا شخصياً تعلمت معنى هذا الانتماء، بعد انضمامي لحزب الوفد بعام واحد، تعلمت مرادف الولاء الكامل للفكرة، وأدركت للمرة الأولى معنى الغيرة على الكيان، فكان الدرس الذى تلقيته عام 1989 على يد وفدى قديم اسمه «عم ظريف» كان قد تجاوز حينها الثمانين من عمره، ولكنه لم يتول أي منصب تنظيمي في الوفد، رغم أنه عاصر مصطفى النحاس في عنفوانه وقوته وسيطرته على قلوب المصريين، فكان النحاس عند «عم ظريف» هو الزعيم، ولا زعيم غيره.. «عم ظريف» بطل حكايتنا- رحمة الله عليه- هو وفدى من محافظة القاهرة، وكان الوفديون العائدون للحياة السياسية عام 1984 يعرفونه عز المعرفة، فقد كان شاباً وفدياً مناضلاً في الثلاثينيات والأربعينيات، وظل وفدياً مناضلاً حتى تم حل الأحزاب في مطلع الخمسينيات، وبقى وفدياً مخلصاً خلال الستينيات والسبعينيات وعاد للوفد عضواً لا تلين له عزيمة في 1984، وظل يتحدث مع الشباب الصغير المنضم حديثاً للوفد مثلنا، عن مصطفى النحاس وزعامته، وكنا نُطلق لقب «عاشق النحاس» على «عم ظريف»، مثلما أٌطلق على إبراهيم باشا فرج لقب «ابن النحاس»!!

ولكن ما هو الدرس الذى حصلت عليه من «عم ظريف».. كان الدرس يوم 23 أغسطس 1989، وكان حزب الوفد يحتفل في مقره القديم بالمنيرة في حي السيدة زينب بذكرى الزعيمين سعد زغلول ومصطفى النحاس، ويبدو أن الاحتفال لم يكن بالشكل اللائق بالذكرى، ولا يتناسب مع حجم الوفد، في وقت كان زخم العودة ما زال قائماً، وتوافد الجماهير على مقر الوفد لا ينقطع يومياً بأعداد كبيرة، ورغم أننا كنا ننتظر بداية الاحتفال بالذكرى، فوجئت بـ«عم ظريف» يترك المقر غاضباً، ويتجه إلى الشارع، وذهبت إليه مسرعاً مع عدد من شباب الوفد، لنستفسر منه عن سبب غضبه، ولحقنا به عند آخر سور المقر، بالقرب من المركز الثقافي الفرنسي، فقال لنا «أنا زعلان.. مش هأقدر أقعد تاني.. معقول ده الاحتفال بذكرى سعد والنحاس.. النحاس اللي كان بينتظره الملايين فى كل مكان يروح فيه.. يحتفل بذكراه عشرة أشخاص.. لأ.. لأ.. مش هأقدر أستنى»، وبكى الرجل بكاءً مريراً.. وحاول تغطية وجهه بحقيبة قماشية كان يحملها باستمرار.. حتى لا يرى الشباب الصغير دموعه.. ولكن الحقيبة لم تنجح في التغطية.. فرأينا الدموع.. وشعرنا بالوجع، فكان الدرس الذي لا يُنسى عن معنى الغيرة التي لا تضر حباً في كيان كبير اسمه الوفد.. ولاحظ أن «عم ظريف» كتم الغضب في نفسه.. ولكنه عبر عن رأيه دون تجاوز.. وبالمناسبة «عم ظريف» لم يعش بعدها كثيراً، ولكنه توفى بعد هذه الواقعة بعدة أشهر.. وكانت وصيته لأولاده بأن يتم تسليم الحزب محتويات مكتبته الضخمة الخاصة التي تحتوى على مئات الكتب، والصحف النادرة، التي تتضمن وقائع مهمة عن تاريخ الوفد، وقد تسلمنا بالفعل هذه المكتبة، وقرأنا كتباً نادرة وعرفنا تفاصيل تم نشرها عن الوفد في الصحف خلال الفترة من 1919 حتى 1952، بفضل هذه الوصية، وقد كانت هذه الكتب والصحف ممهورة بختم يحمل اسم «عم ظريف» رحمة الله عليه!!

لم يكن عم ظريف– المخلص في صمت– وحده حاملاً لهذه الصفات في حزب الوفد، ولكن كان يوجد مثله الكثيرون.. أتذكر أنني كنت أتلقى دعوة مستمرة لحضور جلسة تثقيفية أسبوعية من لجنة الوفد بالسيدة زينب.. وكنت أتلقى الدعوة من صديقنا الوفدي الأصيل عبدالله الجابري.. وقد استجبت في النهاية لحضور الجلسة التي لم أنقطع عنها بعدها طيلة سنوات، خاصة أن تنظيمها كان يتم داخل المقر الرئيسي الموجود بحى السيدة.. وفى المرة الأولى التي ذهبت فيها للجلسة.. رأيت رجلاً مخلصاً آخر يشبه «عم ظريف» في وفديته.. هو «عم عربي» رئيس لجنة الوفد بالسيدة الذي كان يجمع أعضاء اللجنة مرة كل أسبوع على الأقل لمناقشة كتاب، والغريب أن الجلسة كانت تتضمن طقساً مستمراً.. فقد كان «عم عربي» يقوم بتلخيص الكتاب قبل حضوره للجلسة.. وكان يقرأ الملخص الكامل للكتاب على أعضاء اللجنة مدة نصف ساعة تقريباً، ثم يبدأ النقاش.. في حلقة تثقيفية بديعة.. تتم بانتظام وبسهولة ويسر.. وقد نتج عن هذه الفكرة البسيطة تخريج عدد كبير من الوفديين المثقفين في السيدة زينب، وكان كاتب هذه السطور من بين الذين تعلموا كيفية تلخيص الكتب والاستفادة من معلوماتها على يد «عم عربي»، الذى كان وفدياً مخلصاً ومواطناً بسيطاً.. لم يكن يتكلم كثيراً، ولكنه كان فاعلاً كبيراً، ومضيفاً مجتهداً لرصيد الحزب البشرى، فكانت نوعية الوفديين الذين شاركوه في العمل بالسيدة زينب معظمهم من الفاهمين المثقفين!!

يوجد بيننا عشرات ومئات النماذج التي تُشبه «عم عربي» و« عم ظريف».. والوفد يحتاج لجهودهم لتعليم الشباب كيفية الانتماء لكيان لن يبقى مائة عام أخرى إلا بالإخلاص!!
tarektohamy@alwafd.org

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوكو تويترلمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى