نون والقلم

إسلام شفيق يكتب: اتركوا حليبنا صافيًا ومياهنا عذبة

نستطيع عبر عملية معقدة -نستخدم فيها أحدث أجهزة التحليل الكيميائي باهظة الثمن- أن نفصل بعض قطرات السم التي اختلطت بالحليب قبل أن نتمكن من شربه مرة أخرى، لكن سيظل هناك شعورًا خافتًا من الخوف بداخلنا، يمنعنا من شرب اللبن، مع علمنا يقينًا بأنه أصبح خلوًا من كل المواد السامة التي تسللت إليه. إنه الشعور نفسه الذي ينتابك عندما يقدم إليك أحدهم كوبًا باردًا من الماء العذب ويخبرك بأنه أصبح ماءً صالحًا للشرب بعد استخلاصه وتنقيته وتحليته من مياه الصرف الصحي «المجاري».

لنترك هذه الفكرة جانبًا بشكل مؤقت، لنعود إليها بعد أن نناقش عمليات التشويه التي تستهدف بعض رموز المجتمع من الساسة أو المشاهير أو أئمة الفكر والثقافة ورجال الدين أو غيرهم. وتتساوى في ذلك عمليات التشويه الممنهجة من جانب الدول والحكومات وبعض الأعداء، أو غير الممنهجة من جانب الأفراد، أو العمليات العشوائية بجانبيها المحترف والبدائي.

ما أسهل أن تُحِل حرامًا على لسان شيخ جليل مشهود له بالعلم والتقوى، أو أن تقذف شخصًا في عِرضه، أو تشكك في دينه، أو تشوه سمعة امرأة شريفة، أو سياسي نزيه. ما عليك سوى أن تدخل على مواقع الإنترنت لتحميل أحد برامج التزوير أو «الفبركة» المتاحة دون أن تتكبد عناء شرائها، أو أن تدفع رسوم اشتراكٍ لها. أما إذا كنت قد عقدت النية على إلحاق الضرر بهذ الشخص أو تلك المرأة بالفعل، فما عليك إلا أن تدفع حفنة من الدولارات لشراء هذه البرامج، لتُنتج بها فيديو أو مقطعًا صوتيا يحاكي الحقيقة تمامًا، ولا يكشفه سوى قلة من المحترفين المتخصصين في علم «الفبركة».
هذا الشخص في الغالب سيقاوم، وسيظهر على مواقع التواصل أو شاشات الفضائيات أو صفحات الجرائد ليدافع عن نفسه، ويدفع عنها هذه الاتهامات، إما بجمع الحجج والبراهين التي تثبت براءته من التهمة، أو بالاستعانة ببعض الأصدقاء للرد على هذه الاتهامات بالوقائع والأدلة، أو بغيرها من الأساليب.

قبل أيام قلية وبينما أستعرض بعض منشورات «فيسبوك» و«واتسآب»، وقعت عيناي على فيديو مفبرك لمذيع مشهور من مرتزقة الفضائيات، يستخدم صوته أكثر من حجته في إدارة برنامجه الذي يُسخِّره لخدمة أنظمةٍ بعينها، وبالرغم من اختلافي معه شكلًا ومضمونًا، إلا أنني وجدت أنه من الواجب شرح أساليب الفبركة التي استخدمها المفربك لتشويه صورة وزارة تدير أحد أخطر الملفات المتعلقة بالأمن القومي، لا لنصرة هذا المذيع أو الوزارة أو النظام الذي يخدمه، بل لحماية مهنة الصحافة التي أنتسب إليها من مرتزقة المونتاج وكتائب الفبركة. فمثل هذه المواد التي استُخدمت هذه المرة لتشويه معسكر الضلال، استُخدمت من قبل -وقد تستخدم في المستقبل- لمحاربة الحق وأهله، وتشويه صورهم في عيون البسطاء والعامة.

تضمن هذا الفيديو لقاءً عبر الهاتف أجراه هذا المذيع الحنجوري مع ضيف ذي شأن في هذه الوزارة واستخدم المفبرك فيه فنون المونتاج لتشويه صورة الحكومة والوزارة التي تواجه أزمة كبيرة تتعلق بالتعامل مع أحد ملفات الأمن القومي، وتنوعت مظاهر الفبركة التي -للأسف- لا يستطيع المشاهد العادي ملاحظتها إلا بعد شرحٍ وافٍ يقدمه له أحد المحترفين الذين يعملون في غرف الأخبار بالتلفزيون أو أولئك الذين يعملون في أقسام المونتاج في التلفزيون أو السينما.

نعود الآن لنظرية استخلاص السم الذي وقع في اللبن. ففي جميع الأحوال، وبصرف النظر عن نجاح الشخص الذي تعرض للتشويه من خلال فيديو أو مقطع صوتي في الدفاع عن نفسه، وبعد أن يبذل كل ما في وسعه من جهد لكشف فبركة هذه الفيديوهات أو التسجيلات الصوتية، وبعد أن يقتنع المشاهد بأنه تعرض لمادة مفبركة بإتقان كادت أن تختطف وجهة نظرة وتوجهها إلى اتجاه معين، هل سيمحو ذلك كل ما نال سمعة هذا الشخص من تشويه، وكل ما سببه هذا المفبرك اللعين من أضرار له وللجمهور الذي تعرض لهذا المحتوى المشوه.

المنطق ينفي ذلك ويدعم التنوع البشري هذا الرأي بشدة، فجمهور وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي شديد التنوع، وله خلفيات متفاوتة، وينبع من ثقافات مختلفة، كما أن مرجعياته الدينية والعلمية تتفاوت فيما بينها تفاوتًا شديدًا، فهناك من يتبنى نظرية المؤامرة، وهناك من هو جاهز بطبيعته لتصديق أي فيديو مفبرك يتوافق مع اتجاهاته وميوله السياسية أو الفكرية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وهناك «حزب الكنبة» صاحب نظرية: «كل شيء جائز»، وهناك المشككون الذين لا ينفكون يصدقون كل ما يعرض عليهم ويحبون أن يسود الشك بين الناس، وهناك من يسبحون في مستنقعات الجهل والتخلف والفقر -وما أكثرهم- ممن يمثلون بيئة خصبة لانتشار مثل هذه المواد.

وهناك وهناك وهناك، حتى المتعلمون الذين يتمتعون بدرجة لابأس بها من الوعي والثقافة، يغترون أحيانا بمثل هذه المواد بسبب إتقان عملية فبركتها وعدم إلمامهم بأساليبها.

الخلاصة أننا جميعا سنرفض شرب المياه المحلاة من مياه الصرف الصحي، وإن كانت باردة ونحن في أشد حالات العطش، وسنرفض تناول الحليب بعد استخلاص السم الذي وقع فيه، حتى وإن كانت عمليات التحلية والتنقية باهظة الثمن، وأجريت في أرقى معامل التحلية والتنقية في العالم. معظمنا -إن لم يكن جميعنا- سيقع فريسة غريزة الخوف من الماء واللبن تماما كما سنتعامل مع هذه الشخصية التي تعافت من التشويه الذي لحق بها.
إخواني، نحن في النهاية بشر، فلا تُلقوا بالسم في حليبنا، ولا تُلحقوا الأذى بمياهنا. اتركونا نعيش في سلام، ولا تغسلوا في مياه البراءة ثيابكم الملوثة.

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى