هو أمر مهمٌّ وجيد ما أعلنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس من أنّ «منظمة التحرير، ودولة فلسطين، قد أصبحتا في حل من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأميركية والإسرائيلية، ومن جميع الالتزامات المترتبة عليها، بما فيها الأمنية».
لكن السؤال الأهم هو: ماذا بعد ذلك؟!. هل ستشهد الساحة الفلسطينية خطوات عملية وسريعة تؤدي إلى وحدة الجسم الفلسطيني وقيادته؟! وهل ستجتمع الفصائل الفلسطينية كلّها في إطار «منظمة التحرير الفلسطينية» وفق برنامج عمل مشترك وهيئة تنسيق عليا بين قيادتها؟ّ!. وهل سيكون هناك تفعيل أفضل لدور الفلسطينيين المنتشرين في أوروبا واميركا الشمالية، والذين يُشكّلون طاقات كبيرة كامنة في المجتمعات الغربية التي تقدم حكوماتها الدعم والتسليح والتمويل لإسرائيل؟!.
سبب هذه التساؤلات هو الخوف من استمرار المراهنة على أسلوب المفاوضات فقط، ومن توظيف القرار الذي اعلنه الرئيس الفلسطيني كوسيلة ضغط تكتيكية لا كموقف مبدئي يتم الانطلاق منه الآن لبدء مرحلة جديدة في النضال الفلسطيني.
فاللأسف، ليس هناك معطيات جديدة في هذه المرحلة تحمل أي بارقة أمل للشعب الفلسطيني؟! فالمزيج القائم حالياً من واقع السلبيات الفلسطينية والعربية والدولية، إضافةً إلى طبيعة الحاكمين في إسرائيل والولايات المتحدة، لا يُبشّر إطلاقاً بالخير.
وقد كانت المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هي الأسلوب الوحيد الذى جرت المراهنة عليه طيلة 27 سنة منذ اتفاقية أوسلو وأخواتها!.
مفهومٌ الإصرار الإسرائيلي والأميركي على الفلسطينيين للسير بالمفاوضات دون شروطٍ مسبقة، لكن لا يوجد أيُّ تفسيرٍ مقنع للموقفين الرسميين الفلسطيني والعربي، حيث استمرتّ المراهنة فقط على أسلوب المفاوضات، وعلى المؤسّسات الدولية كخيار وحيد لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي!.
فإسرائيل (يدعمها الموقف الأميركي) حرصت منذ حرب العام 1967 على التمسّك بأسلوب المفاوضات الثنائية المباشرة مع أي طرف عربي، وعلى الدعوة إلى حلول منفردة وإلى رفض الصيغ والوفود العربية المشتركة؛ ممّا شرذم الموقف العربي أوّلاً (كما حدث في المعاهدة مع مصر وبعدها)، وممّا أدّى أيضاً إلى تقزيم القضية الفلسطينية وجعلها مسألة خلاف محصورة فقط بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني!.
لذلك، فإنّ الضغط الدولي المطلوب على الحكومة الإسرائيلية يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني وعربي، يقوم على رفض أي مفاوضات أو تطبيع مع إسرائيل ما لم يتمّ تراجع ترامب عن قرارته بشأن القضية الفلسطينية والوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات الاستيطان في كلّ الأراضي المحتلّة، إضافةً إلى إنهاء الحصار القائم على قطاع غزّة، وعلى أن يترافق ذلك مع تجميد كل أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، بما فيها مصر والأردن، وإعادة احياء ودعم خيار المقاومة المشروعة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
وبذلك تكون هناك مصداقية للموقف الرسمي الفلسطيني والعربي، وتكون هناك خطوات عربية جدّية داعمة للحقّ الفلسطيني المغتصَب.
لقد وصل نتنياهو للحكم في العام 2009، ويستمر في الحكم الآن، بفضل غالبية متطرّفة من الناخبين الإسرائيليين، وعلى رأس حكومةٍ فيها من قادة المستوطنين اليهود الذين يريدون تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ويعملون على جعل الأردن هو «الوطن الفلسطيني البديل»، ويرفضون مبدأ حلّ الدولتين والاتفاقات الموقّعة مع السلطة الفلسطينية.
أيضاً، وصل ترامب إلى «البيت الأبيض» بعد جملة مواقف وتصريحات مؤيّدة لأجندة نتنياهو، وإلى جانب ترامب، صهره جاريد كوشنر ووزير خارجيته بومبيو وسفيره في إسرائيل فريدمان وعدد من المساعدين الذين يرفضون أي خلاف مع إسرائيل، ويدعمون الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويعملون على تصعيد الخلافات والصراعات مع إيران، ليكون هذا الأمر هو أولوية الرؤية الأميركية والإسرائيلية والعربية في الشرق الأوسط الكبير.
واشنطن عملت، في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، لاستثمار نتائج حرب الخليج الثانية والصراعات العربية الحادّة التي سادت آنذاك بعد غزو نظام صدّام حسين لدولة الكويت، من أجل إقامة «شرق أوسطي جديد» كانت تباشيره في مؤتمر مدريد ثمّ اتفاقيات «أوسلو» و«وادي عربة» وتطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية، بينما لم تخسر إسرائيل شيئاً مقابل تلك التنازلات الفلسطينية والعربية. ومنذ ذلك الحين، أي في حوالي ثلاثة عقود من الزمن، اُجبِرت إسرائيل مرّتين على الانسحاب من أراضٍ عربية محتلة: جنوب لبنان وقطاع غزّة، فقط بفعل أسلوب المقاومة لهذا الاحتلال.
فالحقّ اللبناني بتنفيذ القرار رقم 425 كان قائماً لمدة 22 عاماً منذ صدوره عام 1978، لكن إسرائيل لم تستجب إلى هذا «الحقّ اللبناني» المدعوم بالشرعية الدولية إلا حينما رافقت هذا الحقّ قوّة المقاومة للاحتلال، هذه المقاومة التي استندت أيضاً إلى قوّة نهج العطاء والتضحية والبناء التنظيمي السليم، والى قوّة التضامن الوطني اللبناني الشامل معها وحولها على المستويين الشعبي والرسمي. أيضاً، استفادت هذه المقاومة من دعم أنصار هذا الحقّ عربياً وإقليمياً بصورة واضحة خلال شهر آذار/مارس عام 2000، حينما تضافر العرب عموماً بالوقوف مع لبنان ومع حقّه بالمقاومة المشروعة، بعدما حصل في هذا الشهر من عدوان إسرائيلي كبير على لبنان ومنشآته والبنى التحتية فيه.
ولقد خرجت أصوات وكتابات لبنانية بعد عدوان آذار/مارس 2000 على لبنان تطالب بتسريح المقاومة اللبنانية وبعدم جدواها وبأنّها تكلّف تضحياتٍ كثيرة للبنان وشعبه، بينما الآخرون العرب في مسارٍ آخر! وترافقت هذه الحملة آنذاك مع تصريحات أمريكية وفرنسية وإسرائيلية تصف المقاومة بالإرهاب، وتحاول زجّ التناقض بينها وبين المنطقة العربية وحكوماتها وشعوبها من خلال وصف المقاومة بأنّها (حالة إرهابية إيرانية).
لكن جاء يوم 25 أيار/مايو 2000 ليكون شرفاً عظيماً للبنان ولمقاومته الوطنية بأن يحصل الانسحاب الإسرائيلي دون اتفاق أو مفاوضات تحفظ ماء وجه المحتل حينما ينسحب، كما حدث على جبهاتٍ عربية أخرى.
إنّ سلاح المقاومة لم يحرّر لبنان فقط من الاحتلال الإسرائيلي، بل كان له الفضل فيما يشير الآن البعض إليه من أهمّية السيادة اللبنانية على كلّ الأراضي اللبنانية. فإنهاء الاحتلال الإسرائيلي كان هو المدخل لسحب القوات السورية على مراحل، ثمّ انسحابها الكامل من لبنان تنفيذاً لاتّفاق الطائف. ثمّ هل كان ممكناً مطالبة المسلّحين الفلسطينيين بعدم الانتشار المسلّح خارج المخيمات لو كانت هناك قوات إسرائيلية محتلّة في مناطق هذه المخيمات؟.
حال الأمّة العربية اليوم سيء طبعاً بما فيها من انشداد كبير إلى أزمات داخلية قائمة، وإلى صراعات أهلية قاتمة في ظلّ تهميش عربي ودولي للقضية الفلسطينية ولأولويّة الصراع العربي/الصهيوني المستمر منذ مائة عام. وضحايا هذه الصراعات العربية ليسوا فقط من البشر والحجر في الأوطان بل الكثير أيضاً من القيم والمفاهيم والأفكار والشعارات.
فالدين والطائفة والمذهب والأصول الإثنية، كلّها تسميات أصبحت من الأسلحة الفتّاكة المستخدمة في هذه الصراعات. كذلك العروبة والوطنية، فهما الآن أيضاً موضع تفكيك وتفريغ من أيّ معنًى جامع أو توحيدي، في الوقت نفسه الذي يتمّ استخدامهما فيه لصراعات مع جوار عربي أو إسلامي.
أمّا «اتفاقيات أوسلو» عام 1993 فقد أعطت لإسرائيل الاعتراف الفلسطيني بها قبل تحديد حدود «الدولة الإسرائيلية»، وقبل اعتراف إسرائيل بحقّ وجود دولة فلسطينية مستقلّة، وبتسليمٍ من قيادة منظمة التحرير بنصوصٍ في الاتفاقية تتحدّث عن «إعادة انتشار القوات الإسرائيلية» وليس عن انسحابٍ مُتوَجَّب على قوّاتٍ «محتلّة». فإسرائيل أخذت من الطرف الفلسطيني في اتفاق أوسلو كلّ شيء (بما في ذلك إلغاء حقّ المقاومة المسلّحة) مقابل لا شيء عملياً لصالح القضية الفلسطينية. فالطرف الفلسطيني أو العربي الذي يقبل بالتنازلات هو الذي يشجّع الآخرين على طلب المزيد ثمّ المزيد.
لقد أوقفت السلطة الفلسطينية في السابق التفاوض مع إسرائيل، لكن ما البديل الذي طرحته؟ لم تُعلن مثلاً التخلّي عن نهج التفاوض لصالح أسلوب المقاومة المشروعة دولياً ضدَّ الاحتلال! لم تقم بإعادة بناء «منظمة التحرير الفلسطينية» لكي تكون «جبهة تحرّر وطني» شاملة توحِّد الطاقات والمنظمات الفلسطينية المبعثرة! فالتفاوض مع إسرائيل، قبل إدارة ترامب وبعدها، هو مراهنة على سراب، كما هو أضغاث أحلام لا جدوى منها فلسطينياً وعربياً. فما هو قائمٌ على أرض الواقع هو وحده المعيار في أيِّ مفاوضاتٍ أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الكفيل حصراً بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة في الموقفين الإسرائيلي والأميركي!.
مدير مركز الحوار العربي في واشنطن
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية