غابت البهجة والفرحة عن شهر رمضان المبارك هذا العام، واختفت كل مظاهر الشهر الكريم، ربما للمرة الأولى منذ مئات السنين بسبب جائحة كورونا التي غيبت كل مظاهر الحياة الطبيعية في العالم كله، واضطرت الحكومات لاتخاذ قرارات وإجراءات صارمة لمواجهة الأزمة ومحاصرة الفيروس.. إلا أن هذه القرارات كانت أشد قسوة على نفوس عامة المواطنين لأبناء الدول التي كانت تستقبل هذا الشهر الفضيل بطقوس وعادات وعبارات ضاربة في جذور التاريخ وعلى رأسها إغلاق المساجد وغياب صلوات التراويح وأيضاً صلاة الفجر التي اعتاد الملايين عليها وعلى متابعتها في الفضائيات بكل ما تحمله من تواشيح وابتهالات دينية وتلاوة القرآن لنخبة من القراء المحبين الى قلوب المصريين.
وغابت كل التجمعات العائلية التي كان تجمع الأهل والأقارب على وجبة الإفطار، وما يعقبها من جلسات إنسانية تعيد اللحمة والحميمية بين كل أفراد العائلة والأقارب، كما غابت تجمعات الإفطار والسحور في الفنادق والمطاعم التي كانت تجمع الاصدقاء والزملاء وينتظرونها كل عام.
ولأن مصر دولة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ وبلد الأزهر الشريف وأرض الأنبياء، كان لديها عادات وتقاليد اجتماعية راسخة، وطقوس خاصة لاستقبال هذا الشهر الكريم، لا فرق في ذلك بين الأغنياء والفقراء أو الريف والحضر.. الجميع يحتفل بطريقته وسعيد بها، فأبناء الريف يستقبلون رمضان بالزينة في كل الشوارع والميادين وعلى المساجد، وإذاعة قرآن المغرب للشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل والتجمعات الصغيرة بين الأهل والأحباء، ثم تبدأ تجمعات الشهر في كل مكان حتى يأتي صوت المسحراتي لينطلق بعدها الجميع إلى المساجد لصلاة الفجر، ويغفو البعض ساعات قليلة وبعدها ينطلقون للعمل بسعادة بالغة.
وتتكرر الاحتفالات بالمدن وإن كانت بمظاهر مختلفة في الفنادق والمطاعم التي تتزين بطقوس رمضان لتستقبل روادها من مسلمين ومسيحيين في الإفطار الجماعي للأصدقاء والزملاء والمؤسسات وغيرها، ولا تكاد هذه الأماكن تنتهى من حفلات الإفطار حتى تستعد لحفلات السحور المصحوبة بفرق وفناني الابتهالات الدينية، كما تنتشر الخيم الرمضانية وتتحول الأماكن التاريخية مثل الأزهر والحسين وغيرها من الأماكن الضيقة الى مزار سياحي لملايين المواطنين الى حد أن الحصول على مقعد بعد الإفطار، وحتى أذان الفجر يشكل صعوبة بالغة لكثير من الأسر.. وفى المقابل كان يمثل هذا الشهر الفضيل لأصحاب المطاعم والمقاهي وكل الأنشطة موسماً هاماً لتحقيق الأرباح، وتحقيق الآمال والطموحات.
وإذا كان كورونا قد أفسد علينا طقوس رمضان. فإن بعض البرامج والأعمال الدرامية قد ساهمت أيضاً في عملية الإفساد وكشفت عن حال الإفلاس الثقافي والفكري والإبداعي لدى كثير من كتاب الدراما الى حد أن بعضهم بات يكتب روايات على مقاس بعض المنتجين والممثلين، وتحول الأمر الى تجارة على حساب هذا المجتمع الذى عرف على مدار عقود وقرون بسماحته وأصالته وترابطه الاجتماعي.. وللأسف جاءت كثير من الأعمال الدرامية تتسم بالعنف والبلطجة والتفكك الأسرى والتدني الأخلاقي وجحود المواطن المصري تجاه أشقائه وأقاربه ومجتمعه.
وإذا سلمنا أن مثل هذا السلوك الشائن موجود في بعض البؤر، إلا أنه لا يمثل معظم المصريين أو المجتمع المصري الذى ما زال يحتفظ بعاداته وتقاليده وأصالته سواء في الريف المصري أو الحضر، وضرب به المثل سواء في الواقع أو في أعمال درامية تاريخية ما زالت حية في وجدان المصريين والعرب، وما زالت هذه السلوكيات الحميدة تطغى على الشخصية المصرية، ولكنها لعبة المال والأرباح التي شاهدناها في برنامج رامز مجنون رسمي الذى شكل حالة من السادية والعنف بعيدة تماماً عن الكوميديا والفن والإبداع، ورضخ لها ضيوف البرنامج بسبب حفنة من الدولارات وساهموا في هذه المشاهد الرخيصة التي تقزز منها معظم المشاهدين.
من هنا جاء الإجماع والالتفاف حول مسلسل الاختيار، لأنه عبر بحق عن الشخصية المصرية والهوية المصرية بكل ما تحمله من قيم ومبادئ وأخلاق وحب وفداء للوطن، وقد أبدع باهر دويدار مؤلف العمل في الكشف عن مكنون الشخصية المصرية الحقيقية، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يجمع المصريون على هذا العمل الفني الرائع الذى قام كل فرد فيه بدوره على أكمل وجه، وشكل نقطة مضيئة للدراما المصرية، ليس فقط لأنه لامس الواقع المصري، لكن لأنه أحد وجوه تكريم شهدائنا الأبطال وتخليدهم، وترسيخ قيم البطولة والفداء لهذا الوطن في مواجهة خسة الخيانة والعمالة، كما كشف عن حقائق كثيرة كانت غائبة عن شرائح في هذا المجتمع.. وندعو الله أن يعيد هذا الشهر الفضيل على المصريين جميعاً بطقوسه وبهجته العام القادم إن شاء الله وكل عام وأنتم بخير.
نائب رئيس الوفد
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – Fاشترك في حسابنا على فيسبوكو تويترلمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية