بعد أن سمَحَت خليَّة إدارة أزمة كورونا في الأردن، للمصارف خدمة الجمهور لساعات يوميا، كنتُ مع الظهر الأمس، بعد سير على الأقدام لربع ساعة، واحدا في صف طويل من المراجعين، في الشارع خارج البنك الذي أتعامل معه .
قبل أن يحين دوري في الدخول لصرف شيك أحمله، جاءَتْ وحَيَّتْ وقالَت: وأنا أناور لإيقاف سيارتي أمام مستودع الأدوية المُلاصق للبنك حيث اعمل، لمَحْتُكَ تَتَوَكَّأُ مُتثاقلا على عصاك. أشفقتُ عليك من انتظار طويل. فقررتُ قبل أن أدلفَ إلى مكتبي، أن أدعوك لتناول قهوتنا سوية. وأضافت وهي تبتسم، لا تخش ضياع دورك . سأكلف زميلا بقضاء حاجتك في البنك .
رافقتها ممتنا، فهي زوجة صديق بعمر أولادي. صيدلانية متخرجة من الهند . تعمل وهي في منتصف الأربعين من عمرها، مديرةً للتزويد والإمداد، ومشرفةً على وحدة ضبط الجودة في مستودع الأدوية والمصنع التابع له .
بعد أن جلَسَتْ قبالتي في صالون مكتبها. أوصت احد مساعديها انجاز غرضي في البنك . ونحن نحتسي القهوة ، وبحكم صداقتي ووساطتي الدائمة بينها وبين زوجها، المغترب في بلاد الحجاز، سألتها عنه وعن أحوالهما . كمن لسعتها أفعى أم جرس، قالت بعد أنْ وضعت فنجالها جانبا: صاحبُك قد شطَّبْ يا شيخنا، لم يبق عنده طاقه ولا حيل، تصحَّرَ وتشقَّق، لقد أفلسَ في كلِّ شيء .
فعاجلتها وأنا ألتقط فنجال قهوتي بالقول وأنا أعلم بحكم صداقتي لهما ووسيط بينهما، بعض المسكوت عنه في طيات قذائفها الكلامية: حتى وَلَوْ يا دكتورة !!!! فكلُّ ما قُلتِ ولَمْ تقولي، لا يعني أنه قد صارَ سيِّئا، حتى وإنْ صار مريضا. علَّمَتني الحياة، إنِ ارتطمت بشخص كان لطيفا صبورا، وبات فجأة عصبيا ضيق الخلق، أو انسحابيا في الكثير من النقاشات، أو حتى من بعض علاقات تربطه بمن حوله أو بشريكته، أن لا أصرخ في وجهه ولا حتى همسا، ما بك قد تغيرت !!! فمثل هذا ليس من حقي ولا مبررا، لأنه حتى وإن صح موجع ، يصب زيتا على نارٍ مُسْتَفَزَّة.
وعلَّمَتني الحياة، أنّ بعضَ الرتابة حين يُعلنُ عن وجوده، ليس من الضروري أن يكون تنكرا لشريك ولا للمشترك معه. بل لما يكون قد وصل إليه حالهم مع قوس قزح المشترك، وما أفضت إليه محاولاتهم لتحريره، من قبضة القيود والروتين، المُفضي بالحتم إلى الملل . بعض المَلل يا سيدتي، محاولاتٌ فاشلةٌ لصد بعض ما يستجد من حواجز، وبحثٌ عن تجديد يكسر بعض المألوف في مستنقع الواجب وخدمة العلم، التي يموت في لججها ألفُ حُبٍّ . وتنطفي في دهاليزها ألف شهية وشهية .
وعلمتني الحياة أيضا، أن الشراكة المشبعة بالحب أو بالمصلحة، ليست إيقافا لِلَحظة البدء، لتبقى كما بدأت إلى الأبد. إنها نهرٌ جارٍ، من نبع دافق وسواقي نقية، تغذي مجرى حياة نشطة، الثابت الوحيد والقانون المطلق فيها، حركة دؤوبة التَّحوُّل، لا تستأذن أحدا في شيء .
يُبْتلى الشركاء بهذه المشكلة، ذات المسربين المتعاكسين، ليسير كل منهما في واحدة منها، لاستحالة السير في الطريقين في آن واحد، إما طمأنينة راكدة، أو قلق ناضج . وهذا هو لب ما تُعيِّري به صديقي. ضَنكُ عيشٍ بعد بحبوحة، ومرض السكر بعد عافية وشباب متجدد، غزاه بقسوة مع الديون، وامتص الطازج من حيويته .
طأطأت رأسَها، أناخته بين كفيها، صَمَتُّ تَعمُّدا واحتراما لوجعها، تركتها ترتوي بالبكاء، حتى رفعت رأسها وهي تسأل: ما العمل، فأنا ما زلت أحبه وأريد أن أكمل حياتي معه ؟
قلت بشي من الإشفاق والفرح: أتمنى عليك يا سيدتي، أنْ تعلمي أن الذي يعيش حياة مُتحركة، ليس كَمَنْ يعيش في حبٍّ راكدٍ مُستقر . وأعلمي أنَّ الحب المُتحركَ لا يقدِّمُ طمأنينة ولا راحةَ بالٍ، كالتي يحصل عليها من هو في علاقة راكدة . الحب الثابت قد يحمي من فقر العزوبية، ولكنه يمنع الشراكة من الغنى المتنوع . في الحب المتحرك مشكلة كل يوم، لا تنتهي واحدة حتى تلد أخرى . أصحابه في ركض مُتصل، وحركة لا تهدأ ليلَ نَهار . يرتطمون ويهمهمون بشكاوى غامضة، ولكنهم مستمرون . أما في الراكد من الحب ، فلا داع للهلع .
ليس من حق الناضجين الأوفياء، إذا ما غزاهم مللٌ أو داهمتهم نِصالُ الحياة، التغيُّرَ والتَّذمُّر أو تكرارَ الشكوى . دون إنكار لحقهم بالتوجع والتشاكي، إنْ رأوا أنَّ أمكنتهم قد تغيَّرَت في قلوب من يحبون أو من يعرفون . ولكن، قبل هذا وذاك، من حقهم عليكم، أن تتعرفوا على ما بات يحيط بهم من ظروف، أفْرَغَت بطارياتهم من الصبر، وغيَّرَتهم بالنتيجة . فهم على الأغلب الأعم، لم يصلوا إلى هذه المرحلة، إلا بعد أن اسْتُنفِذَت طاقاتهم على الصبر . فتعبوا وتشبَّعوا مللا .
لاحظتُ شبح ابتسامةٍ حزينة مُتردِّدَةٍ تغزوا مَبْسمَها، فأكملتْ ناصِحا: صبراً جميلا راضِيا يا دكتورة، فلَعلَّها ولَعلَّها ولعلَّ منْ خلقَ الصبرَ يحلَّها .
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية