كل ردود الفعل والتعليقات على التدخل الروسي وعملياته الجوية جاء في سياق “قبول مبدئي” بهذا التدخل ومجرد اعتراض جدلي على الأهداف التي ضربها، فهي أكدت مجيئه أولاً لتعويم نظام بشار الاسد ولذلك تركّزت الغارات على مواقع المعارضة التي أنزلت هزائم بهذا النظام، وثانياً لمنافسة الولايات المتحدة وتحالفها الدولي في الحرب على تنظيم “داعش” ما يفسّر انشاء روسيا “الحلف الرباعي” الذي يضمّها مع ايران والعراق ونظام دمشق. وحين راقب فلاديمير بوتين مواقف باراك اوباما بعدما عاين عن كثب مواقف الاوروبيين، لا بد أنه لاحظ رسوخها في الركون للأمر الواقع الذي فرضه، فخصومه لن يتدخلوا ضدّه في سورية. لكنه لم يقرر الذهاب الى سورية من أجل الاسد، ولا من أجل ايران، بل من أجل اوكرانيا. كان جانب مهم من لقاء نيويورك مع أوباما خُصّص لأوكرانيا ولم يسمع فيه بوتين ما يتمنّاه. لذلك قرّر خوض حربه في سورية… على طريقة الدبّ الروسي.
مع الطلعات الجويّة الأولى، وتكرارها، أكد الرئيس الروسي لكل من تحادث معه في الشهور الأخيرة أنه بلع تعهّداته التي تركّزت برمّتها على انهاء الأزمة السورية بـ “حل سياسي” تقوده روسيا وتكون ضماناً للأسد ولحسن سلوكه في فترة محدودة من المرحلة الانتقالية، وبالتزامن يجري تفعيل الحرب ضد “داعش”. وعلى رغم أن هذا السيناريو مثالي وأجمل من أن يصدّق، إلا أن الحدّ من الارهاب، ومن موجات المهاجرين بالنسبة الى اوروبا، شجّع مختلف الأطراف على استشفاف بعض المعقولية فيه، كما شكّل هدفين يستحقان في نظرها “الثمن السياسي”. لذا راحت العواصم الغربية تتحاذق بالصيغ والألفاظ لتغيير مواقفها السابقة واعلان استعدادها لقبول استمرار الأسد في موقعه. مع ذلك كان الجميع متيقّناً بأن الخيار الروسي المطروح يحتاج الى تفاوض واتفاق دوليين مسبقين، وبأن بوتين لن يحسم خياراته إلا بعد لقائه مع اوباما، إلا أن انكشاف ضخامة الإعداد للتدخل العسكري والاعلان عن «الحلف الرباعي” وإقامة مركز استخباري تابع له في بغداد استبقت ذلك اللقاء، وأثارت كمّاً من التساؤلات عن نيات روسيا وأهدافها وخططها. بل ان بوتين استبق خطابه من على منبر اللأمم المتحدة مكرّراً أن محاربة “داعش” تمر بالضرورة عبر التنسيق من الاسد ونظامه.
طالما أن الاميركيين والأوروبيين يواصلون فرض عقوبات اقتصادية على روسيا وليسوا مستعدّين بعد للتفاوض على أوكرانيا والأمن الاوروبي، وطالما أن واشنطن تبدي ميلاً الى البحث مع ايران في تسوية سورية، لذلك لم يبق أمام بوتين سوى انتزاع “الورقة السورية” لتوسيع نطاق التفاوض والحؤول دون أي تخريب على المقايضات التي يسعى اليها. وهكذا تبيّن لواشنطن أن “الخطة ب” لما بعد الاتفاق النووي لم تكن ايرانية فحسب بل ايرانية – روسية، أقله في ما يتعلّق بسورية. كانت ايران حاولت الحصول على دور مشترك مع الولايات المتحدة في محاربة الارهاب في العراق، وكذلك في سورية، مقترحة اعتماداً على الميليشيات لم يلقَ قبولاً لدى الاميركيين، أما الروس فلا يمانعونه ولا يرون ضرورةً للنظر في الاعتبارات التي دعت اميركا وحلفاءها الى استبعاد ميليشيات شيعية وقوات أسدية عن القتال في مناطق سنّية حتى لو كان الهدف/ أو بالأخص لأن الهدف دحر تنظيم “داعش” واقتلاعه من بيئة سنّية يضطهدها ويفتك بأبنائها. ذاك أن سجل السوابق والارتكابات لـ “الجيش الأسدي” في سورية وميليشيات ايران العراقية يجعل التعاون معهما بمثابة «تشريع» دولي للاستباحة والمجازر والانتهاكات ضد السكان.
يوم الأربعاء الـ 30 من أيلول (سبتمبر) شنّت مقاتلات حربية روسية هجماتها الأولى على مناطق المعارضة السورية التي تقاتل ضد النظام، وقال الاعلام الروسي الذي استعاد فوراً “بروباغنديته” السوفياتية أن الضربات “دمّرت مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية الارهابي”، ولا يزال يكرّر هذه الصيغة. لا مجال لأن يعترف بسقوط بضع عشرات من المدنيين ولا بأنه لم يُصَب أي موقع “داعشي” لأن – ببساطة – لا وجود للتنظيم في تلك المناطق. تعرّف المواطنون السوريون لتوّهم الى قصف تنافس ضراوته براميل النظام والصواريخ البالستية والمقذوفات الكيماوية التي ظنوا أنها ذروة ما يمكن أن يتعرّضوا له. كادوا يترحّمون على وحشية النظام اذ جاءتهم وحشية أشدّ… وفي اليوم نفسه أعلن “التحالف الدولي” بقيادة الولايات المتحدة أن طائراته قامت بغارات عدّة على مواقع محدّدة لـ “داعش”… ثم أعلن عن وصول مئات المقاتلين من “لواء الفاطميين” التابع لـ “الحرس الثوري” الايراني للمشاركة في هجوم بري ضد مناطق المعارضة.
في ذلك الوقت كان الأسد يتفرّج: أميركا تضرب “داعش” وروسيا تضرب المعارضة وهو يتفرّج، فالدولتان الكُبريان جاءتا الى مصيدة الإرهاب التي أعدّها والايرانيين لهما، ولا يهمه مَن يُقتل وما يُدمّر في سورية، المهم أن يبقى ونظامه في السلطة، ولو فوق ركام من الخراب. ثمة تغيير سياسي وعسكري في المعادلة جعل النظام يبدي علامات انفراج واستقواء، فإعلامه يوحي بأنه “يدير” المعركة، ووزير خارجيته يقول للمعارضة من نيويورك أنها لن تحقق على طاولة المفاوضات “ما فشلت في تحقيقه على الأرض”، مقتبساً عبارة “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة” الموجّهة سابقاً الى اسرائيل. ثم ها هو الأسد نفسه يخيّر العالم بين «انتصار الحلف الرباعي» و «إلا فنحن أمام تدمير المنطقة بأكملها، وليس دولة أو دولتين».
ليس مؤكّداً أن الأسد سيبقى طويلاً ليتمتّع بما يتوقّعه من «انتصار» أو «دمار» لكنه غير مخطئ في أن المعطى الروسي غيّر المسار لمصلحته وأجّج الصراع على النحو الذي يأمله، وإنْ كان حديثه عن النتائج مبكراً وغبياً. لا شك في أن الرهان الأكبر للاسد على أن بوتين يشبهه في الوحشية بل يتفوّق عليه، بدليل أنه باشر حملته السورية بمنطق ابادة لا بمنطق حرب، فلا تمييز بين مدني وغير مدني كما يفعل «التحالف الدولي» (الاميركي). فما المتوقع من نهج كهذا؟
لم يؤخذ الأميركيون وحلفاؤهم على حين غَرّة، فكل شيء كان أمامهم لكنهم بدوا كمن يُخدعون بإرادتهم، فهم كانوا واضحين منذ البداية في أنهم لن يتدخلوا عسكرياً في سورية، وكانوا واضحين أخيراً في تنازلهم لروسيا عن ورقة «تنحّي الاسد»، ولم يكن ذلك ليعني بالنسبة الى روسيا سوى أنهم مشوّشون يفتقدون أي استراتيجية وأي خيارات – يريدون رحيل الاسد ولا يريدون اسقاطه عسكرياً، ويقولون أنهم مع الشعب السوري ولا يثقون بالمعارضة – لذا كانت مواقفهم أشبه بدعوة الى بوتين للتدخل، ففعل. لكن، اذا لم يوضح سريعاً توجهاته نحو حل سياسي، فإن التطورات العسكرية ستقوّض هذا الحل وستحمل خصومه الدوليين والاقليميين على اعادة ترتيب أوراقهم وتفعيل دعمهم للمعارضة ومساعدتها على الصمود. في المقابل، اذا أصرّ على اخضاع الأزمة السورية للمقايضات الدولية واللعب على نغمة التقسيم الإيرانية – الأسدية فإنه سيستفز كل القوى الاقليمية وعليه أن يقرر اذا كان الاسد يستحق مثل هذه المجازفة ومن أجل ماذا.
والأهم أخيراً، اذا واظب على أسلوبه الأهوج الحالي فإن سحقه للمعارضة قد يرضيه بنتائج سريعة ستبقى غير نهائية، بل سيثبت دفعه الوضع السوري نحو «الأفغنة» وحرب طويلة الأمد لن تسهّل القضاء على «داعش» – هدفه المعلن، بل ستشعل عندئذ الحروب الدينية والمذهبية التي ظلّت تحت الاحتواء خلال الوجود السوفياتي في افغانستان، إلا أنها ستصبح علنية ومكشوفة مع الوجود الروسي في سورية.