فجأة ظهر أمامي وبتلقائية بسبب وباء كورونا، كان احد المحجور عليهم، وكنت مديرة الاستقبال المناوبة في واحد من أشهر فنادق البحر الميت، حين وصل مباشرة من مطار عمان الدولي بحافلات الجيش، برفقة العشرات مثله.
خلال إجراءات الاستقبال، شعرت بأني اعرفه انجذبت إليه بشدة، شعرت دون سبب مقنع، بأن شخصا مهما دخل حياتي و سيغيرها، بطريقة لم استطع إدراكها في حينها، ولكن حدسي أكد لي، بأنها ستكون رائعة، توقظ جوانب كثيرة في نفسي .
كان نصيبه في غرف الفندق، جناحا ارضيا مطلا على البحر، بعد العشاء تمشينا معا لساعات على الشاطئ المضاء، شعور عميق بالألفة تدفق بداخلي، وأنا بصراحة واندفاع كنت أحاوره .
بدأتُ بعدها بلا وعي، ودون اعتبارات مجتمعية، ألاحِقه، حتى تدفق تجاهي، كنتُ اشعر بسعادة طاغية، كلما ازددنا دراية ببعض سرعان ما أدركت أنه ليس نصفي الأفضل، ولكني تيقنت بأنه النصف المُكمِّل الذي أنتظره .
مع مرور الأيام، توالت اللقاءات في الكثير من مرافق الفندق، أخذ قانون الجذب والاندماج وضعه بشدة، ارتفعت كثيرا درجات التخاطر الذهني بيننا، صرتُ أكثر صخبا، منفتحة أمامه بشكل صريح وأمين، أنضجَ ما كنتُ أتجنبُ التحدّثَ عنه مع غَيرِه، فقفزت الكثير من الحواجز رغم إشكالية السن وأنا في منتصف الستين من عمري ، لأنصهر دون حذر ولا روية، في حُبٍّ غير مشروط سريع الحركة، كان قد تبلور بيننا، رغم قصر الفترة الزمنية لتعارفنا .
ساعدني بالطريقة التي يفكر بها، على رؤية الأشياء في ضوء مختلف عن ذي قبل، اكتشفتُ أشياء لم أكن أعرفها عن نفسي، بِتُّ أقف أمام نفسي وأقابلها فيه، فأرى في عينيه، إجابات على أسئلة تدور حولي، لم يحدث أن كنتُ مع شخص يؤمن بصحة الكثير من الأشياء التي لدي .
ضمَّدَ المكسورَ، عزَّزَني وعزَّزَ الكثير مما كنت اعتقد، أيقظ فيَّ الشعور بالأمان، أطلق العنان لأفكاري ومعتقداتي، بِتُّ أتحدث دون خشية من تعقيد الكلمات وفهمها الخاطئ، تفاعله معي وتقبله لبعض اختلافاتنا، زودني بشعور أقل من الكمال، ولكنه أكثر كثافة من الحب والتوجس في آن .
تابَعَتْ حديثها معي عن بعد، عبر شاشة حاسوبي، وأنا مُنصتٌ صامت، قائلة: لم أكن في أي وقت مضى امرأة تطارد الرجال يا شيخي، قبل أن ألتقيه كنت متميزة بقدر كبير من العقلانيّة، أظنّ نفسي صعبة المِراس، لا يستطيع أحد تحريك عاطفتي، لكن كلما التقيته، أصير أكثر رقة، تستيقظ لدي عواطفُ صاخبة، وتبدأ الأرض بالدوران من تحت قدمي، ولا أعود قادرة على التنبؤ بمسلكي في حضرته .
قلتُ بحذر شديد: مردُّ ذلك يا سيدتي، أنّك كنتِ تقمعين هذه المشاعر والطاقة القويّة التي تميّزها، وأخيرا أتى الشخص المناسب ليُساعدك على إدراكها، والشفاء من الكبت والقمع ، إنه يدفعك إلى اكتشاف مزايا كامنة فيك، لم تكوني تعرفينها من قبل، ألا يمكن القول، أنه كاشف لإخفاقك في التعرف على ما تمتلكه نفسك، ولم تكوني ترينه قبل مجيئه؟! إنه ملهم يا سيدتي، ومحفز للتغيير .
قالت بصوت مكسو بشيء من الحزن: ما تقوله صحيح، ولكن المشكلة أنه جاء في الوقت الخطأ غير المناسب، اقتحم مشاعري وأنا غير مستعدة، ما أزال أعيش غمار عاطفتي مع زوجي يرحمه الله، بعد خمس سنين من رحيله، كنت منغلقة عن الحب، غير راغبة فيه، كنت أظن نفسي ناضجة وعلى قدر عال من الاتزان، ولكن تبين لي أني كنت أهجس بشخص يشبهه، وحين جاء شعرت بانجذاب قوي، حرر مشاعري بشدة، صرت أكثر عاطفية، استيقظت حواسي، وصرت غريبة الأطوار، صحيح أنني منبهرة بجنوني، إلا أن هناك صوتا في مؤخرة رأسي يحذر من شيء غير صحيح يعترض الطريق، يستجوب مشاعري باستمرار ويسألها، فيما إذا كان حبنا حقيقيا .
فأشعر بارباك يفرض علي أسئلة عديدة : لماذا الآن ، لما لم يأت قبل أن تتعقد الأمور بهذه الكيفية؟ ما هي الحكمة في ذلك؟ اخبرني بالله عليك يا شيخي، كيف أتخلص من هذا الشعور ومن هذه الدوامة ؟
قلت: أمرك إلى هنا عاديّ يا سيدتي، فإذا ما كان التوقيت خاطئا كما يبدو لك، عليك قبل استشعار ألم، الاختيار سريعا بين الانصياع لعلاقتك الجديدة، أو الهرب منها ومواصلة الاستغراق في علاقتك الهادئة مع المرحوم، رغم مواجع ارتطام هذه المواصلة بالفطرة، ولكن، لا ينبغي الخلط بين الألم هنا، والحب هناك، فالحب في العادة ليس مؤلمًا، و لكن كل ما يقف في طريقه، يمكن أن يكون كذلك.
قالت: ليس هذا هو أسوأ ما في علاقتنا، ولا السنين العشر التي أكبره فيها، فعلى الرغم من خيوط التشابه بينا،غير المرئية للعامة، فإن علاقتنا ليست وردية وليست دائما سلمية، تحمل في أرحامها شيئا من الاختلاف المؤلم، تمرُّ بأوقات شاقة من الكر والفر، تنقطع وتعود، رغم عمق الشغف الذي يجمعنا، والعديد من التجارب المشتركة، فإني أشعر بالحيرة وأنا أحاور نفسي فيما إذا كان هذا الشخص هو من أريد أن أتابع معه ما تبقى لي من حياة، لا أنكرك أني ممتلئة به، والثقة وعدم الثقة به متشاطئان، كلما فارقته أحاول نسيانه فلا اقدر مهما كانت الأسباب، بل أجد نفسي مطالبة دائما، بتسويات موجعة لا رجع إليه، ونلتئم من جديد .
قلت: تمر مثل هكذا علاقة بالكثير مما يرهقها، أشدها، محاولات الانسحاب والخروج، الدخول والاندماج المتكررة، ليس لغياب الحب، وإنما عظمة الترابط، تضعكما في علاقة مترددة، يحتاج التخلص منها لجلسات استشفاء مركزة .
وجدير بالذكر، وبغض النظر عن مكان تواجدكما في الحياة، فأنتما لستما مجرد عشاق، تجمعهم علاقة رومانسية أو حميمية، بل مُعلِّمان مُستنيران، لمساعدة النفس على النمو، ولكن من المحبط أن تجدان نفسيكما في بعض الأحيان متكاملين وأحيانا مختلفين أكثر مما ترغبان، ومطالبين بتسويات مستمرة لالتئام العلاقة واستدامتها .
قلت متابعا وإنا انفث دخان أول لفافة لي: أنتما مثال حي رائع وحقيقي لثنائية الوجود، فعلى الرغم من حقيقة حبكما لبعض، وتفهمكم لظروف الحياة ومتطلباتها، وتقبلكم المرن لما يطرأ على علاقتكما، تضيقون ذرعا بالشريك، لقدرته على كشف أسوأ مخاوفكم ورغباتكم الخاصة، فهو يعرف عنكم أشياء لا تعرفونها، كأنكم روح واحدة في جسدين، بينكم حبل طاقيٌّ قوي تشعرون به وتعرفونه، ينبؤكم بمشاعر بعضكما ويبقي التخاطر الذهني قويا جدا بينكما .
قالت وهي تتناول فنجال قهوتها : كنت أظن أننا بمجرد العثور على توأم الروح، نشعر بالتفاهم معه، وبالراحة والأمان والاستقرار، لأنه يطابقنا بشكل مثالي .
قلت مقاطعا وأنا أداعب الشيب فوق جبهتي: يرتكب الناس خطأ كبيرا يا سيدتي، حين يعتقدون بأن شريكهم الموازي الصاخب، هو توأم روحهم، هذا خلط وسوء فهم، علامات كل منهما ووظيفته، تختلف اختلافا كبيرا .
توأم الروح انعكاس مثالي لروح متوافق معها حد التطابق، تشتركان في الكثير من النظرات إلى الحياة، تشعر بالتفاهم والراحة معهم، ليس شرطا أن تجمع بينهما علاقة عاطفية، ويمكن أن يكون لشخص واحد عدة توائم روح، على عكس التوأم الموازي الصاخب، فهو واحد فقط في كل الحياة ، يرتبطان بعلاقة عاطفية غير مشروطة، أساسها الشغف والألم، ومبنية على الكر والفر، يتقبلان الاختلاف بينهما مهما كان غريبا، ولكن هذا الشريك في المحصلة، ملهم لنا في اكتشاف جوانب نجهلها عن أنفسنا، ولعلمك، انتهاء مثل هذه العلاقة شبه مستحيل .
أطرقت رأسها مبحرة في فنجال قهوتها، وسرعان ما رفعته وهي تقول: والساعة تقارب السادسة في منطقة البحر الميت، وقبل أن يعلن بدء الحظر عندكم في عمان، من فضلك، قل لي ما العمل يا شيخنا ؟
قلت وبسمة تتسع فوق وجهي: الحياة والموت يا سيدتي قدر، والسعادة قرار، علينا أن نثق أننا لسنا وحدنا، فينا ومن حولنا ما يستحق العيش من اجله، يتسع لنا وللتوأم معا، يكفينا لنتوافق على إتقان عيشه، بالمشاركة الايجابية الناضجة، فليس بالصراع وحده يحيا الإنسان، وبالقطع ليس بالحيرة العدمية ولا بالندية الساذجة .
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية