لا تكاد منظومة إيمان سماوية، تخلو من التأكيد، على أن الغاية من استخلاف الإنسان، هي العبادة وعمارة الأرض بالعمل النافع.
ولا تخلو هذه المنظومات، مما ينظم حياة الناس وعلاقاتهم ببعضهم . فهي تركز على ضرورة تجسيد القيم، التي تعزز ثقافة المشاركة، ونبذ المُسقِطَةِ في مُستنقعات الإقصاء وإلغاء الآخر .
وإني أرى أن كل هذه الأصول، لن تتحقق إلا بالتعارف المستمد من روح الاستخلاف، التعارف إن كان لذاته أو لتبعاته أصل من أصول العمران الاجتماعي، المبني على الإيمان بوحدة الإنسانية، المختلفة الأجناس، المتعددة الشعوب. فالله بميزان العدل والحكمة، خلق الناس سواسية، لا تفاضل بينهم، ولا تفاوت إلا بالتقوى .
حينما نتحدث عن الإنسانية، نستحضر ما للوحدة من قوة، تستطيع مواجهة جميع التحديات التي قد تتعرض لها بلا تمييز . والتي لا يمكن للفرد مواجهتها لوحده دون الاستعانة بغيره . ولذلك فإن الناس على اختلافهم يضربون في الأرض سعيا لتبادل المصالح والمنافع . يسلك بعضهم سبل الرشاد، وبعضهم سبل الفساد والإفساد .
من الطبيعي أن يتعرض مطلق إنسان خلال حياته، لمشاكل وكوارث يصعب عليه حلها لوحده . فيلجأ إلى قوى مُفارِقَة، يثق بقدرتها على إنقاذه، فيتوسلها بالدعاء . فالدعاء حاجة فطرية عابرة لكل إنسان . أما في حياة المؤمن، فالدعاء من أفضل العبادات . يمارسها وهو على يقين بأن الله يُحِبُّ أن يُسألَ ، وحَضَّ خلقَه على أن يدعوهُ بحاجَتهم . ولذلك لم يجعل بينه وبينهم حِجابا . مُجيزا الدعاءَ لكلِّ الناس مِمَّنْ ليسوا مِنَّا أو مِثْلَنا . أما قبولُ الطلَبِ في أيِّ دعاءٍ مُستوفٍ لِشروطه أو عدم قبوله، فهو لله وحده . ولكن المؤمن السوي، موقن في العادة، بأن رحمة خالقه تسع كل شيء.
في حمى البلاء، ابتدع بعض الناس، أدعية زائفة ظاهرها إيماني، وحقيقتها تجاهل للمقاصد الربانية، تقف في مضمونها الأناني حجر عثرة أمام الأخوة الإنسانية . والسخيف في الأمر، أن تطور علوم الأوبئة، لم تكف الكثير من عتاة العنصريين والطائفيين والمذهبيين، إلى تغيير بِدَعِهم في الدعاء لأنفسهم ولجماعاتهم فقط، ظنا منهم أنهم محميون، دون شراكائهم في الإنسانية، وان البلاء لن يصيب إلا الأغيار .
ولكن تطور الأوبئة وامتدادها، أفقيا وعاموديا، كشف زيف تبريراتهم وسذاجتها . فعاد بعض غلاتهم للقول ولو على استحياء، بأن دوران الوباء واستفحاله في الأرض، لا علاقة له بجغرافيا أو بدين أو مذهب أو ثقافة أو منصب أو ثروة ، بل له أسباب من تصرفات الناس، أي ناس .
سؤال العلاقة بين الدين والتدين في الفكر وفي الممارسة، وضبط المسافة القائمة بينهما ، وتأثيراتها على القضايا المعاصرة لأي مجتمع ووحدته وتماسكه، من الإشكاليات المقلقة، التي ساءلت جهود رواد فكر التغيير والإصلاح . من هذا المنطلق اخترت لهذه المقالة، النظر في نماذج من الغلو والتطرف في الأدعية السائدة لدى البعض، وتأثيراتها على سلاسة العلاقات بين مكونات المجتمع على كل ضفاف الإيمان .
في هذا ابتلاء كورونا الذي تعيشه الإنسانية جمعاء، تشنف قلوبنا وتطرب أرواحنا يوميا، أشكال وصيغ من الابتهال والدعاء لله تعالى، وترتطم أسماعنا وأبصارنا في الوقت نفسه، بالكثير من مضامين أدعية ليست مُحايدة ، بل مُثقلةٌ بِتعمُّدٍ شديدٍ بعواطف تسوِّقُ لِخطابٍ عنصري أحول، قُطْرِيٍّ، أو طائفي أو مذهبي، مُخجِلٍ لأنه يدعو ربَّ كلِّ الناس، إلى أن يرفع البلاء عن طائفتها دون إشارة إلى شركائها في الحياة من الطوائف الأخرى معها أو من حولها . ظانين بحسن نية أو عن جهل أو سوء مقصد، أنَّ الله لم يهد قوما سواهم . متناسين حق كل ملل الناس، في الحياة السليمة الكريمة .
وحين أقرأ لأصحاب الفُرقَةِ الإيمانية في أيِّ مجتمع تعددي، أو أستمع لمنطق أدعيتهم المثقلة بثقافة تحتكر الرب لها، المُصادِرَةِ لحسابِ المصالح ودرء المفاسد، تذهبُ نفسي إشفاقا وحسرة عليهم، وعلى ما فيه من غرابة ومن شذوذ . فالله لم يَصْطفِ خِلْقا لاستخلافهم في الأرض ثم يكرههم . فمن يحب الله حقا، يحب كلَّ ما خلق . ومن يحب جماعته، يحب الآخرين شركاءه في المحنة . فالاختلاف والتنوع على مدارج الإيمان، هو الفطرة الأولية في خلق الناس . بعيدا عن الأسباب والخلفيات لما نحن فيه من اختلاف وتنوع، من الضروري التأكيد على انه تنوع لا يفرقنا، ولا يبعث الريبة فينا ولا الشك ولا الخوف من بعض .
حين ندعو إلى الإصلاح والتغيير، علينا أن نبدأ بثقافة الانغلاق التي تكرست في نفوس البعض . ففي المجتمع التعددي الديمقراطي الذي ننشد، لا مكان لثقافة الاتهام، ولا للتكفير أو للنبذ. فما هو موحد فطرة بين الناس، أعم وأهم مما هو متفاوت ظرفيا بينهم، وأن القيمة الإنسانية في جميع الناس متساوية، وأن التفاوت بينهم يكون بتلك القيم المكتسبة بجهد شخصي، وأن كل تعامل بين الناس يجب أن يكون بميزان العدالة . فسنة الله قسطاس مستقيم ، لا تُحابي أحدا ولا تجافي أحداً .
بما أن هدف الدعاء رفع البلاء وتحقيق النماء، دعونا ندعو بِنِيَّة شُمولية . فالوطن السويُّ يحتضن كلَّ أهله، ويؤمن لهم كلَّ أسباب الحياة الكريمة المستدامة، في حالة من التعاون المتجه نحو الانصهار . الابتلاء عدو يحاصرنا جميعا ، علينا التعامل مع عواقبه متعاونين ، تماما كما نتعامل مع مسبباته .
أعلم صعوبة العيش في واقع ، بعض ناسه صمٌّ بُكمٌ عُميٌ . لا يَصدَعون لحقائقِ العلم ومكتشفاته، ولا لمقتضيات الإيمان وتبعاته . على قلوبهم وعلى عقولهم أقفال صدئة، لن ينفع معها زرعُ سبعُ سنينا من الحب .
أيها الناس، الأدعية سلاحٌ ، والسلاحُ بِضاربه لا بحده . فمتى كان الدعاء صالحا وبلا آفة به، يحصل التأثير وتتحقق المنفعة إن شاء الله . لا نعرف ما الذي يختبئ لنا خلف المنعطف، لكن من يعرف الله منا، يتسع عليه كلُّ ضيق، ويعرف أنَّ ثمة شمس ستشرق كلَّ يوم . أنَّى تُولُّوا وجوهَكم ، ثمة وجه الله . قِفوا بين يديه، أقبلوا عليه بكل جوارحكم . فسيعامِلُكُم بالإحسان لا بالميزان، وبفضله لا بعدله .
أما أنتم أيها العنصريون، فلكُم دينكم أدعوا بما شئتم، حتى تتقطع منكم الأحبال الصوتية . أما نحن فلنا ديننا، فلن ندع مثلكم . سنعمل على تكثير الأوعية الشرعية الوسطية الفعالة، لاستيعاب قِيمَةِ النِّديَّةِ السويَّةِ الكاملة بين الناس، وحماية تفريعاتها، وحسن تنزيلها على الواقع . فالعصر الذي نعيش، هو عصر ترسيخ التعارف والتفاهم، وليس عصر العزلة والعنصرة ونفي الأخر .
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية