مؤكداً أن جميع قادة الحركة الوطنية المصرية قد أسهموا في صناعة تاريخ هذه الأمة بمواقفهم الصلبة، وعطائهم الفياض وتضحياتهم بالغالي والنفيس في كفاحهم ضد الاستعمار البريطاني والتبعية العثمانية، وقيادة كفاح الشعب المصري نحو الاستقلال والتمتع بالحرية والديمقراطية.
والمدهش في الأمر كان عنصر المفاجأة من سعد زغلول وقادة الحركة الوطنية في مواجهة الإمبراطورية العظمى وفى أوج انتصارها بالحرب العالمية الأولى عام 1918.. وهى الفترة التي شهدت فيها البشرية نهاية عصر وبداية عصر جديد، عندما سقط أربعة قياصرة لأربعة إمبراطوريات كبرى هي العثمانية والروسية والألمانية والنمساوية.
وترسخت أقدام الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس شرقاً وغرباً في كل مستعمراتها، لتفاجأ بفلاح مصري يؤرق مضاجعها ليس في مصر وحدها، وإنما في كل دول العالم الواقعة تحت نير الاحتلال والاستعمار، ويتحول سعد زغلول إلى أيقونة الثوار ورمز لحركات الكفاح والتحرر الوطني في العالم أجمع.
الأسبوع الماضي، وبمناسبة مرور الذكرى الأولى لثورة 19 في بداية المئوية الثانية.. تناولت جانب من عبقرية سعد زغلول في الثورة الأم عندما قرر استخدام- قوة الجماهير- وأدخل الشعب المصري في المعادلة السياسية من خلال التوكيلات، وهو الأمر الذي عجزت بريطانيا العظمى عن مواجهته، وحصلت مصر على استقلالها في 28 فبراير عام 1922، وحققت مصر قفزات ونجاحات كبيرة سياسية واقتصادية.. ولكن هناك جانباً ربما يكون أكثر أهمية وهو إحداث ثورة فكرية وثقافية في المجتمع المصري وترسيخ قيم ومبادئ وهوية مصرية، التف حولها المجتمع المصري عندما استخدم سعد زغلول لفظ الأمة، ووحد كل أبنائها على قلب رجل واحد، كما أكد عباس محمود العقاد، وأفردت أكبر وأعرق صحف بريطانيا وهى التايمز صفحات عن الزعيم المصري، وسطرت صفحات عن استقبال الشعب المصري لزعيمه عند عودته من المنفى، ووصفته بأنه استقبال لم يحدث له مثيل في التاريخ للملوك ولا الزعماء ولا الأبطال الفاتحين، وكتبوا عنواناً يقول- إن سعد زغلول اليوم هو أعظم رجل في العالم كله- وأشارت الصحيفة إلى أنه لم يبق بيت في القاهرة لم يهجره أهله، ولم يبق بيت في الوجه البحري كله إلا وخرج كل رجاله ونسائه وأطفاله يصطفون على شريط السكة الحديد لرؤية سعد والهتاف بحياته، ولم يتوانَ أبناء الوجه القبلي في الزحف إلى القاهرة والإقامة بميدان باب الحديد انتظاراً لقدوم سعد.
وسطر العقاد أغرب ما شهدته مصر في هذا الوقت عندما أضرب اللصوص والنشالين ثلاثة أيام عن السرقة، ولم تسجل أقسام الشرطة في كل أنحاء القطر المصري حادثاً واحداً بعد أن علا الشعور الوطني وترسخت في العقول قيم المواطنة.. وربما يكون كتاب المستشرق جاك بيرك – مصر.. والإمبريالية والثورة – ملخصاً للتأثير الفكري لثورة 19، عندما أشار إلى أنها أثرت في تاريخ كثير من البلدان، وتركت آثاراً رائدة في شتى المجالات، وإذا كانت أحداثها أصبحت ماضياً إلا أن تأثيرها الساحر على المصريين مازال حياً فى العقول بسبب مهارة سعد زغلول الفائقة في القيادة التي يندر مثلها في الوجود.
إن الثورة الفكرية التي أحدثتها ثورة 19 مازالت حاضرة وسوف تستمر منذ أن رسخ سعد فكرة المواطنة والوحدة الوطنية بمفهومها الواسع بين كل طبقات وشرائح الشعب المصري، فلا فرق بين الفلاح والأفندي، ولا بين الباشا والعامل، أو المسيحي والمسلم، والرجل والمرأة.. وظهر هذا جلياً في تشكيله حكومة الشعب سنة 1924 عندما أصر على اختيار وزيرين من الأقباط، ووزيرين من الأفندية، على عكس كل التقاليد المتبعة في أن يكون عدد الوزراء عشرة من الباشوات، واحد منهم من الأقباط، وعندما حاول الملك فؤاد إثناءه عن الفكرة، أو منح الباشوية للأفندية قبل تعيينهم وزراء رفض سعد زغلول، وقال هذه ليست وزارة تقاليد.. إنها وزارة ثورة، وعندما كان الإنجليز يطلقون علينا النار في الثورة لم يراعوا النسبة بين الأقباط والمسلمين، ولم يراعوا النسبة في نفينا خارج البلاد، ولم يفرقوا بين طبقات الشعب المصري.. من هنا أطلق الشعب على هذه الوزارة- وزارة الشعب.
ولأن سعد زغلول رجل قانون وشغل مناصب القاضي والوزير ووكيل الجمعية التشريعية.. كان قد بلغ الستين من عمره عند تفجر الثورة، وأيقن أن المكتسبات الحقيقية للأمة المصرية في مجموع القيم والمبادئ التي تسود المجتمع المصري- فجاء شعاره الخالد- الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة- ترسيخاً لدولة القانون والمواطنة وحكم الشعب.. ثم كان تشدده في مواجهة لجنة الثلاثين لوضع دستور 23 إلى حد أنه أطلق عليها لجنة الأشقياء، رغم أنها كانت تضم مجموعة من العلماء والمفكرين والمثقفين ورجال الدين والسياسة والتجار.. وكان يرى سعد زغلول أن تكون لجنة وضع الدستور منتخبة من قبل الشعب، وهو الأمر الذي وضع اللجنة تحت ضغط شعبي هائل، وأدى إلى إنتاج دستور يحترم سيادة وإرادة الأمة ويصون الحريات العامة وحرية الصحافة ويرسخ لدولة القانون وحرية الفكر والإبداع وحقوق العمال وغيرها من النصوص التي أحدثت ثورة فكرية وفنية وثقافية ورسخت لهوية مصرية يصعب خدشها أو الاقتراب منها لقرون طويلة.
نائب رئيس الوفد
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية