«إن حسنى مبارك الذي يتحدث إليكم اليوم يعتز بما قضاه من سنين طويلة في خدمة مصر وشعبها.. إن هذا الوطن العزيز هو وطني مثلما هو وطن كل مصري ومصرية.. فيه عشت وحاربت من أجله ودافعت عن أرضه وسيادته ومصالحه، وعلى أرضه أموت.. وسيحكم التاريخ عليا وعلى غيري بما لنا أو علينا.. إن الوطن باقٍ والأشخاص زائلون.. ومصر العريقة هي الخالدة أبدًا.. تنتقل رايتها وأمانتها بين سواعد أبنائها، وعلينا أن نضمن تحقيق ذلك بعزة ورفعة وكرامة جيلا بعد جيل.. حفظ الله هذا الوطن وشعبه».
هذه الجمل آخر كلمات قالها الرئيس الراحل حسني مبارك رئيس الجمهورية الأسبق رحمه الله، خلال خطابه الأخير وقت ثورة 25 يناير 2011 قبل خطاب التنحي الذي ألقاه اللواء أركان حرب عمر سليمان، تلك الكلمات التي أثرت في معظم المصريين في ذلك الوقت، بل قد بكي الكثير أمام شاشات التلفزيون وقت إذاعتها وخرج الكثير من الشعب المصري يساند الرئيس في اليوم التالي وقد انقسم الشعب من وقتها لجزء يدافع عن الرئيس مبارك والآخر لا يري منه سوي ما فعله من أخطاء سياسية في حق الشعب.
ومن هنا أتذكر كيف كان يعامل الرئيس مبارك وقت أن كان في الحكم وهو الذي حكم مصر خلال الفترة من 14 أكتوبر عام 1981 حتى 11 فبراير عام 2011 أي ثلاثون عاما قضاها في حكم البلد، كان فيها الرئيس مبارك يتصدر الصفحات الأولى للصحف القومية بمساحات معينة مخصوصة ليس هذا في الصحف وإنما كان لا يوجد مكان لقيادة من القيادات أو هيئة حكومية إلا ووجدت صورة الرئيس مبارك داخلها.
كما أنني أتذكر مادة التاريخ بالصف الثالث الثانوي العام وكيف كان فيها درس كامل عن الضربة الجوية لرئيس الجمهورية آنذاك حسني مبارك في وقت حرب أكتوبر عام 1973 ، وأتذكر أيضا العديد من المواقف التي كان يبجل فيها كل شخص من الشعب المصري الرئيس حسني مبارك وبالأخص ذو القيادات والسلطات بالدولة ومن أشهر هذا التبجيل أغنية اختارناك التي ألفت وغنيت له.
حسني مبارك هذا الذي كان مجرد ذكر اسمه ينزل على أي مصري الرهبة من هيبته ومكانته إذا به بعد خطاب التنحي ترمي صوره بالشوارع وعلى اللافتات التي كانت مرفوعة في ميدان التحرير بعنوان «ارحل» وقت ثورة 25 يناير ، ولم ينته عند ذلك بل تم محو ذاكرة وتحول هذا الشعب من عاش الملك إلى مات الملك في ذلك الوقت، حتى أنهم حذفوا بعد ذاك اسمه من محطة المترو التي أصبحت في يومنا هذا يطلق عليها محطة الشهداء.
ولم يكتفوا بذلك بل قد حذفت الهيبة التي كان يدرس بها درس الضربة الجوية في المدارس وتم ذكر اسمه فقط بدون أي مقدمات مما كانت متواجدة من قبل السيد رئيس الجمهورية حتى لو كانت يعقبها لقب الأسبق.
لم يكن هذا التحول وقت مبارك فحسب ولكن يبدو أنها طبيعة لدى الشعب المصري الذي عادة ما تغلب عليه العاطفة فينجرف معها دون إعمالا للعقل، فتلك المشاهد التي رأيتها أنا وجيلي بالكامل بأعيننا قد قرأنا عنها من قبل وقت أن انقلب الشعب على الملك فاروق بقيادة الضباط الأحرار في ذلك الوقت، هذا الملك الذي تنحي عن الحكم وتنازل عن العرش حقنًا لدماء المصريين وتنفيذا لرغبتهم بالرحيل، كما أنه رفض التعاون مع قوات الاحتلال، ثم خضع لكل طلبات قيادات ثورة 1952 التي انتهت بنفيه خارج البلاد.
فيقول اللواء محمد نجيب الرئيس الأول للجمهورية في مذكراته: «جئت متأخرا لوداع الملك بسبب ازدحام الطريق وكانت المحروسة في عرض البحر، فأخذت لنشاً حربياً دار بنا دورة كاملة كما تقتضى التقاليد البحرية وصعدت للمحروسة وكان الملك ينتظرني، أديت له التحية فرد عليها، ثم سادت لحظة صمت بددتُها قائلاً للملك: لعلك تذكر أنني كنتُ الضابط الوحيد الذي قدم استقالته من الجيش عقب حادث 4 فبراير 1942 احتجاجاً، فرد الملك: نعم أذكر، وقلتُ له: حينئذٍ كنتُ مستعداً أن أُضحى برزقي وبرقبتي في سبيلك، ولكن ها أنت ترى اليوم أنني نفسي أقف على رأس الجيش ضدك، فرد فاروق: إن الجيش ليس مُلكي وإنما هو ملك مصر، ومصر وطني، وإذا كان الجيش قد رأى أن في نزولي عن العرش ما يُحقق لمصر الخير، فإني أتمنى لها هذا.
رأينا نحن هذا المشهد متكررا وقت تنحي مبارك عن رئاسة مصر وخضوعه للحكم والسجن ورفضه الهروب خارج البلد غير متمثلا بمعظم رؤساء الوطن العربي التي قامت بها الثورات في نفس الوقت .
واليوم جاء الوقت الذي حكم عليا التاريخ بما له وما عليه فرغم ما مر به الرئيس حسني مبارك إلا أن الترتيبات القدرية وهيبة مصر أعطته قدره المستحق في نهاية حياته، إذ تكرمها الدولة بجنازة عسكرية يحضرها الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية وتعلن مصر الحداد على روحه ثلاثة أيام وتنكيس الأعلام في الفترة من يوم الأربعاء الموافق 26 فبراير حتى يوم الجمعة الموافق 28 فبراير الجاري.
الرئيس حسني مبارك رجل أعطى مصر الكثير من عمره ومثلما أخطأ أصاب كثيرا، فقد مات الملك ولكنه عاش هذه المرة في قلوب وعقول من تعقلوا بالنهاية وحكموا عليه بالعدل، واعتدلوا هم أيضا، واستوعبوا أننا نحن جميعا بشر سواء كنا قادة أو مواطنون علينا واجبات ولدينا حقوق، قد نخفق في بعضها ونصيب في الآخر وما يهم في الأمر أن نعطي كل ذي قدر قدره .
للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية