نون والقلم

علاء شديد يكتب: خذوا الحكمة من أفواه المجانين..!!

تصيبني الدهشة بين الحين والآخر عندما يردد البعض المقولة الشهيرة «خذوا الحكمة من أفواه المجانين»، حيث تترد أسئلة عديدة في عقلي.. لماذا نتحصل على الحكمة من المجانين وهي من المفترض خلاصة للحياة وتجارب عاشها بني البشر.

ثم هل الحكمة أصدق وأقوى عندما نتحصل عليها ممًا فقد عقله، وكيف ينطق من فقد عقله بالحكمة وممن المفترض انه مع فقدان العقل يكون قد فقد معه خبراته وتجاربه بل حياته ككل، فكيف يمكن أن يقول الحكمة ويحددها ويوصفها..!

قيل عبر الموروث الشعبي أن قصة المقولة الشهيرة «خذوا الحكمة من أفواه المجانين» تتمثل في أنه ذات يوم توفي رجل ببلدة بعيدة عن البلد الذي يسكن بها، ووصل إلي أولاده خبر وفاته ، وقام أبنه الكبير بتحديد يوماً للعزاء ولكن أخوته طالبوه بحقهم في الميراث، فطلب منهم أن ينتظروا حتى يتم العزاء ويعطيهم ما يريدوا، ولكنهم لم يقبلوا وأصروا علي أن يقسموا التركة.

فرفض هو أيضاً وقال لهم سيتكلم الناس علينا إذا علموا أننا قمنا بتقسيم الميراث قبل انتهاء العزاء، وذهب أخوته يشتكوا أخاهم إلي القاضي فبعث له القاضي ليحضر أمامه.

فكر الأخ الكبير ماذا يفعل وماذا يقول للقاضي، فذهب إلي أحد رجال البلدة الذين يتميزون بالعلم والحكمة والرأي السليم، وحكي له قصته مع أخوته وطلب منه أن يجد له مخرجاً له من هذا الموقف، فقال له الرجل الحكيم  سأدلك عن رجل لن يعطيك الحل غيره، فقال له الأخ الكبير أن ذلك الرجل مجنون فكيف له أن يحل مشكلة عجز عن حلها العقلاء.!

فقال له الرجل اذهب إليه فلديه الحل لما تريد فأسرع وذهب إليه وحكي له القصة، فقال له الرجل المجنون قل لإخوتك هل عندكم من يشهد بأن أبانا قد مات؟ فقال له الرجل والله ونعم القول، كيف لم أفكر في هذا من قبل.

وذهب إلي المحكمة وقابل القاضي وقال له ما قاله الرجل المجنون، فقال له القاضي أنت علي حق وسأل أخوته هل عندكم من شهود ؟

فقالوا للقاضي لا أنه توفي في بلد بعيدة وقد أتي إلينا الخبر عن وفاته وليس لدينا شهود علي ذلك، فقال لهم القاضي أتوا بالشهود واستمرت القضية معلقة لمدة سنة ونصف، وقال لهم أخوهم لو صبرتم لأسبوع لكان خيراً لكم وأصبح قوله مثلاً.

في روايته الإبداعية موسم الهجرة إلى الشمال للمبدع السوداني الراحل الطيب صالح يقول « أن الحكمة تخرج من أفواه البسطاء، والتي هي أملهم في الخلاص» وكأن الحكمة هي المُسكن القادر على تجاوز الحياة، بل ويقول على لسان شخوص الرواية «الحياة مليئة بالألم، لكن يجب علينا أن نتفاءل ونواجه الحياة بشجاعة» ولذلك فالحكمة ترتبط بالضعفاء حتى يمتلكون القدرة على إيجاد تفسيرات «بسيطة» لتجاوز مصاعب الحياة.

وفي كتابة العبقري «فيض الخاطر» ذو الأجزاء العشرة يقول المفكر الكبير الراحل أحمد أمين أن تحديد معنى «الحكمة» من أصعب الأمور؛ شأنها في ذلك شأن الكلمات المعنوية العامة، كالحرية، والجمال، والعدل، وكل ما يستطيعه المُعرف أن يذكر أهم الخصائص المميزة للكلمة.

ويقول: لقد عرفها بعضهم تعريفًا تقريبيًّا على إنها «نظرة عميقة عملية مباشرة إلى معاني الأشياء وأغراضها، تصدر عن ذكاء حاد نفاذ دقيق الملاحظة، يستمدها من تجارب الحياة ومن مخالطته العملية بالحياة اليومية»، ويسمى الرجل ذو النظرات هذه حكيمًا، وتسمى الكلمة المشتملة على هذه النظرة حكمة، ومن هذا قيل: «إن من الشعر لحكمة»، وقيل: «الحكمة ضالة المؤمن»، وأحيانًا يلحظ في «الحكيم» أنه يضيف إلى هذه النظرات الصائبة العملَ على وفقها، ومن ذلك قوله تعالى: وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وسمي لقمان حكيمًا؛ لأنه ينطق بالحكمة ويعمل بها.

وينحاز أمين، قليلًا إلى الشرق وبروز الحكمة من بين أروقته قائلًا في نفس الكتاب: « إن كثرة غزارة الحكمة في الشرق، وتفوقه على الغرب، أن الحكمة  تنبع من الإلهام، والفلسفة تنبع من المنطق والتفكير العقلي، والشرق معروف من قديم بأنه موطن الإلهام، فكان أكثر حكمة».

وقالت الكاتبة البريطانية كلوديا هاموند، في مقالًا حمل عنوان «كيف يمكنك أن تصبح أكثر حكمة»: الحكماء هم من يمتلكون القدرة  على الرجوع خطوة للوراء والنظر إلى الصورة بشكل أشمل. فهم عميقو التفكير، ويجيدون التأمل في قدرات الذات، ويدركون حدود معرفتهم الخاصة، ويفكرون في البدائل، ولا ينسون أن العالم يتغير على الدوام، ويمكنهم التعامل مع مواقف تتسم بعدم الوضوح، ومع ذلك يظلون متفائلين بأنه مهما كانت المشاكل أمامهم معقدة، هناك حلول. كما أن بإمكانهم التمييز بين الخطأ والصواب.

ولقد حاول علماء النفس إيجاد مفهوم محدد أو توصيف دقيق للحكمة منذ عقود طويلة، منهم عالم النفس الكندي إيجور جروسمان، والذين وجدوا أن الحكمة يمكن أن تحقق قدرًا من التوازن النفسي والتعامل باحترافية مع الحياة وضغوطها ولهذا الحكماء من الناس يعيشون أعمارا أطول من غيرهم وفي المقابل، لا يصنع الذكاء أي فرق فيما يتعلق بالحياة ذاتها بشكل عام، وذلك لأن مستويات الذكاء لا تعكس في الغالب قدرة الإنسان على تعزيز علاقات جيدة مع الآخرين، أو اتخاذ قرارات مناسبة في الحياة اليومية.

وأضاف جروسمان، الحكمة ليست سمة فطرية مستقرة ينبغي أن تتمتع بها من البداية، وبالتالي علينا أن نجتهد لنكون حكماء في بعض الأحيان، مشيرًا إلى أن لدينا جميعا القدرة على أن نتحلى ببعض مظاهر الحكمة، ولكن ليس طوال الوقت”.

أما عالم النفس الأمريكي روبرت ستيرنبيرجف، يؤكد أن الحكمة ما هي إلا القدرة على الموازنة بين الأمور، وبالتالي الشخص الحكيم هو الشخص الذي لديه القدرة على الموازنة العقلية بين نتائج الأمور على المدى القصير والمدى البعيد، وبين المصلحة الشخصية ومصالح الآخرين، وذلك مع التفكير في جميع الخيارات المتاحة، وفقا للوضع القائم، أو من خلال السعي لتشكيل وضع جديد.

هكذا هي الحكمة لمسات نورانية قل عليها هكذا أو قل قدرة فريدة على توصيف تجربة أو حل قضية أو التعامل مع موقف ما بمنتهى الهدوء والجدية معًا .

t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

Back to top button