نون والقلم

جوهر الأزمة العراقية

أعادت الأزمة الراهنة الإشكاليات الأساسية التي عانتها الدولة العراقية منذ الاحتلال الأمريكي- البريطاني للعراق العام 2003، خصوصاً موضوع الطائفية السياسية التي أصبحت ظاهرة متفشّية في مفاصل الدولة العراقية وأروقتها، بل إن التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني أصبح السمة الأبرز للحكم ما بعد الاحتلال.
ولم تستطع الدولة على الرغم من مرور 13 عاماً على الاحتلال، حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية، وما يتعلق بالبطالة والضمان الاجتماعي والمتقاعدين، بل إن هذه المعضلات تفاقمت على نحو شديد، وازدادت تعقيداً ما عمّق الأزمة السياسية، وأضفى عليها بُعداً شعبياً أخذ بالاتّساع، خصوصاً وقد ترافق ذلك باستمرار انقطاع التيار الكهربائي ساعات طويلة وعدم حلّ مشكلة المياه التي أخذت بالتفاقم، ما سبّب أمراضاً وأوبئة عدة، ومنها انتشار مرض الكوليرا.
لقد قامت العملية السياسية على صيغة المحاصصة الطائفية- الإثنية التي وجدت ضالّتها في تأسيس مجلس الحكم الانتقالي في يوليو/تموز العام 2003، خصوصاً بتخصيص 13 عضواً منه لما سمّي بالشيعة و5 أعضاء لما سمّي بالسنّة و5 أعضاء لممثلي الكرد وعضو واحد لمن اختير ممثلاً عن التركمان وعضو واحد باسم الكلدو- آشوريين.
وعرفت الدولة الجديدة التي تأسست على أنقاض الدولة القديمة التي قامت في عشرينات القرن الماضي، باسم «دولة المكوّنات»، التي ورد ذكرها ثماني مرّات في الدستور. أما «دولة المواطنة» التي كان العراقيون يتطلّعون إليها بعد انقضاء حقبة الحكم الاستبدادي الشمولي، فقد اختفت مدلولاتها وتضبّبت معانيها، لاسيّما بعد تأسيس نظام المحاصصة.
إن ذلك يمثّل جوهر الأزمة بجميع فروعها وأجنحتها. وإذا كان الاحتلال صائراً إلى زوال مثلما كان متوقّعاً، فإن خطر الطائفية ظلّ ينخر في جسم الدولة العراقية، ويحفر في كيانها بمعول مسموم، وإذا ما استمرّ على هذا المنوال، فإن عملية الهدم والتآكل ستصل إلى أساساتها، وبالتالي ستؤدي إلى انهيارها.
فالدولة حتى باعتراف أقطابها السياسيين هي دولة فاشلة، وتحوّلت مع مرور الأيام إلى كيان رخوٍ وهشّ وقابل للاختراق، وما سيطرة “داعش” على محافظة نينوى، ومركزها الموصل، في 10 يونيو/حزيران العام 2014، وتمدّده إلى مناطق أخرى من العراق، إلاّ دليل صارخ على ذلك، يضاف إليه، أن الفساد المالي والإداري ضارب الأطناب في عمق الدولة وأجهزتها والقوى المهيمنة عليها، لدرجة أن العراق ومنذ الاحتلال أخذ يُصنّف من جانب منظمة الشفافية العالمية، باعتباره من الدول الأكثر فساداً في العالم.
كان الدستور المؤقت (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية) الذي صدر في عهد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر (13 مايو/أيار 2003 – 28 يونيو/حزيران 2004) في 8 مارس/آذار العام 2004، تكريساً وانعكاساً للصيغة الجديدة لتوازن القوى، وقد قام نوح فيلدمان القانوني الأمريكي المناصر ل«إسرائيل» بإعداد صيغته الأولى، مثلما عمل الخبير الأمريكي بيتر غالبرايت في وقت لاحق على صياغة بعض المواد ذات الطبيعة الإشكالية التي اعتبرت ألغاماً قابلة للانفجار في أي لحظة، لأنها تشكّل مصدر خلاف واختلاف، وليس مصدر اتفاق وتوافق.
وبدلاً من أن يكون الدستور القاسم المشترك الأعظم الذي تلتقي عنده الإرادات المختلفة للقوى والأحزاب والمنظمات السياسية والجماعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذات المصالح المتنوّعة، فإذا به يصبح هو بالذات تعبيراً عن الإشكاليات والصراعات التي عانتها الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، وهذه كلّها تنطلق وتصبّ في صيغة المحاصصة التي اعتمدتها، وفي النزاع حول تمثيل هذه الجماعة أو تلك لتتحدث نيابة عن هذه الطائفة أو تلك أو تمثل جزءاً منها، عبر الاستقواء بالمحتل والحصول على الامتيازات، خصوصاً من جانب أمراء الطوائف، وليس بوسائل إقناع أو بنفوذ حقيقي، سياسي أو فكري أو اجتماعي.
ولم يتورّع هؤلاء عن استخدام العنف والحشود الجماهيرية الهائلة التي تذكّر بعصر المداخن في مدة الثورة الصناعية في أوروبا، بهدف كسر إرادة الآخر وفرض نمط ديني أو مذهبي على الحياة العامة، وعلى المجتمع ككل. وبالطبع فإن مثل هذا الأمر لم ينشأ في فراغ، فقد كان له ردود فعل أقسى وأشدّ أحياناً، وهكذا أخذت دائرة العنف تتّسع لتشمل الجميع، خصوصاً بانتعاش بؤر للإرهاب، التي تغذّت بتفاعلها مع جهات خارجية إقليمية ودولية ولأهداف مختلفة.
ولكي يتم تمويل عمليات الإرهاب والعنف، لجأت الكثير من القوى إلى استخدام موارد الدولة لمصالحها الخاصة، الشخصية والحزبية، سواء عبر سرقات منظمة أو هدر المال العام أو توظيفه في غير مواقع التنمية، فضلاً عن أصحاب الحظوة من الأبناء والأصهار والشركاء في إطار عمل غير مشروع.
ويعتبر الفساد الوجه الآخر للإرهاب، كما أنه ليس بعيداً عن مخرجات الطائفية والتقاسم المذهبي- الإثني، وقد أغرى الفساد جميع الكتل والأحزاب والقوى بالانخراط فيه، والتستّر على منتسبيها وأتباعها، ولهذا فإن خطره امتدّ إلى أجهزة الدولة بكاملها والعديد من المنظمات والهيئات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، التي هي الأخرى ضعفت يقظتها إزاء غول الفساد ومخالبه.
ومن المظاهر الأخرى للأزمة العراقية وخلفياتها، هو ضعف الشعور العام بالمواطنة والعودة في الكثير من الأحيان إلى صيغ ما قبل الدولة، سواءً الطائفة، أو الجماعة الإثنية، أو الدين أو العشيرة أو الجهة أو المنطقة، للاحتماء بها والاختباء خلفها، طالما لا تستطيع الدولة حمايتها وتأمين الحدّ الأدنى من وظيفتها في ضبط الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وتلك هي الوظائف الأولى والأساسية للدولة، وأية دولة لا تستطيع القيام بذلك، فلماذا إذاً هي دولة؟
لقد ساهمت الطائفية السياسية في انهيار هيبة الدولة ومعنوياتها، لاسيّما وأن بعض الأطروحات والتوجّهات السياسية وضعت «المرجعية» الدينية المذهبية فوق الولاء للدولة، بما فيها تداخلاتها الخارجية، والأمر لم يقتصر على المؤيدين لهذه «المرجعية»، وهي تمثّل مجموعة من رجال الدين المتنفذين في النجف وأتباعهم الذين يسائلون ولا يُسألون، بل شمل خصومهم أيضاً، الذين يتسابقون معهم أحياناً في الحصول على صكوك المباركة لوظائفهم أو مواقعهم أو امتيازاتهم.
إن ذلك يعني إخضاع مرجعية الدولة لمرجعية غير دستورية، في حين أن جميع المرجعيات، سواءً كانت دينية أو سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو عشائرية، ينبغي أن تخضع إلى الدولة التي لها صفة العلوية والسمو على غيرها من المرجعيات، مهما كانت مكانتها ودورها، بما فيها حق احتكار واستخدام السلاح والفصل في الحكم بين الأفراد وبينهم وبين الدولة، ومن دون إخضاع المرجعيات الأخرى إليها فلا تصبح والحالة هذه دولة.
وإذا كان الدستور ملغوماً وفيه الكثير من العيوب والمثالب التي تستوجب تعديل نصوصه أو إلغائه لسنّ دستور أفضل، لكن ذلك لا يلغي وجوده القانوني وعلويته والاحتكام إليه وفقاً للنظام السائد، حتى تتوفر فرصة مناسبة، يتمكّن فيها الشعب العراقي من اختيار ممثليه في أوضاع سلمية وطبيعية وآمنة، خصوصاً بوضع حدّ لظاهرة الإرهاب والعنف والفساد.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى