تعيد المشاهد الحياتية التي نراها يوميًا على ذهني فيلم «أرض النفاق» الذي أنتج عام 1968 باقتباس من رواية الكاتب الكبير يوسف السباعي، وإخراج فطين عبد الوهاب.
هذا الفيلم الذي يحمل فكرة عبقرية تسلط الضوء على مشكلات مجتمعية لا تزال موجودة حتى الآن، من خلال فلسفة كوميدية، فدارت أحداثه حول اكتشاف البطل لمنزل في وسط الصحراء يحمل اسم يبدو غريباً وهو “أخلاق للبيع “، ليتضح أنه محل لبيع حبوب للأخلاق.
ومن أهم مشاهد الفيلم – الذي يجسده الفنان فؤاد المهندس والفنانة شويكار- مشهد سؤال البطل عن حبوب للأخلاق السيئة ولم يجد بسبب التكالب عليها من الناس، والمشهد الثاني عند إلقائه «شوال» مكتوب عليه «خلاصة الأخلاق» حتى ينشر الأخلاق في المجتمع.
حقًا نحن في حاجة شديدة إلى «شوال» من خلاصة الأخلاق هذه حتى لا نتعرض كل يوم لما نراه من مشاهد تدخل الألم بنفوسنا ، وقد وصل بنا الحال إلى انتشار ظاهرة التحرش داخل مجتمعنا والتي كان آخرها الواقعة التي صدمتنا جميعًا، ألا وهي واقعة “فتاة المنصورة”.
انتشر مقطع فيديو تلك الواقعة المخزية على جميع مواقع التوصل الاجتماعي والمواقع الصحافية والذي يظهر اعتداء مجموعة كبيرة من الشباب على فتاة كانت تحتفل هي وزميلتها وزميل لها بليلة رأس السنة وترتدي« ميكرو جيب »، وفي منتصف الليل أثناء سيرها بأحد شوارع محافظة الدقهلية تم الاعتداء عليها من الشباب وسط تجمهر كبير حولهم منهم من كان يتحرش بها ومنهم من يعتدي عليها جنسيًا.
ووسط هذا الحشد الكبير من الذكور لم يتحرك سوي ثلاثة رجال لمحاولة إخراج الفتاة – المغربية الجنسية- من داخل هذا التجمع الرهيب بعد التحرش بها بأبشع الطرق وتمزيق ملابسها والتقاط صورًا لها ونعتها بألفاظ مسيئة، وتمكن الرجال من إنقاذها لتستقل سيارة ملاكي.
وعلى الرغم من بشاعة الواقعة التي تنم عن انحدار أخلاقي، إلا أن ردود الفعل اختلفت على مواقع التواصل الاجتماعي، فمنهم من ترحم على الأخلاق وطالب بمحاكمة هؤلاء المتحرشين، ومنهم من اتخذ من ملابس الفتاة مبررًا للتحرش بها وانهالوا عليها بالألفاظ المشينة واتهموها هي بقلة الأخلاق.
الحقيقة وأنا أسرد تلك الكلمات أشعر بكم هائل من الصدمات ولكن المصيبة الكبرى في هذه الواقعة تكمن في ثلاثة مؤشرات خطرة جدًا وهي: الأول ما رأيته داخل الفيديو من انعدام شجاعة المشاهدين حتى تتعرض فتاة لهذه البشاعة ولم يتحرك لإنقاذها سوي عدد قليل، والمؤشر الثاني الأكثر خطورة حين قرأت كم التعليقات التي تبرر التحرش كعقاب لملابس الفتاة، أما المؤشر الأخير و الأخطر فهو ما كشفت عنه التحقيقات عندما أعلنت جنسية الفتاة غير المصرية، فكيف تكون صورتنا أمام العالم الآن؟ !
تأملت كثيرًا في الحال الذي وصلنا إليه ، فقد تربينا نحن الجيل الحالي على أفلام الخمسينيات والسبعينيات التي كنا نشاهد فيها الفتيات يرتدين الملابس القصيرة مثل الميكروجيب والفساتين الكب والمايوهات البكيني ولم نر أو نسمع عن كم تلك الحوادث.. وكيف كانت تجسد تلك الأفلام لغة الحوار التي كان معظمها ملتزمة باللغة العربية مثل أفلام يوسف بك وهبي؟ هذا الفن الذي لم نجد فيه أغاني مهرجانات أو كلمة خارجة حتى معاكسات الفتيات كانت قديمًا قمة في الرقي والتقدم.. فيقول الكاتب الصحفي فكري أباظة عام 1932 “إن الشاب الصفيق من هؤلاء يتعمد الوقوف على رصيف محطة الترام بالقرب من المكان المخصص لركوب السيدات وعندما يجد سيدة تقف بمفردها، يقترب منها بمنتهى البجاحة ويقول لها دون سابق معرفة بنسوار يا هانم! ” .
أين ذهب هذا المجتمع؟ كيف كانت هذه أخلاقنا من مئة عام؟ ونحن الآن في عصر التكنولوجيا والتقدم يصل بينا الحال إلى هذه الدرجة من تدني الأخلاق! حقاً نحن نحتاج إلى عودة للقديم حيث كان للمعلم هيبته أمام التلاميذ، حين كان الأب والأم يزرعون في أبنائهم لغة الاحترام من أول طريقة التحدث حتى التحلي بها.
نحن بحاجة إلى وزارة تربية وتعليم حقيقية وليست وزارة معارف فقط، فالمدارس مهمتها الأولي التربية قبل التعليم، نحتاج لفن محترم يصدر لأطفالنا وأولادنا، من خلال وضع رقابة لتنفيذ ذلك.. فأين ما كان يقدم قديماً من محتوى ذي قيمة عالية، مثل عالم الحيوان وحواديت أبله فضيلة التي تربينا عليها ومسلسلات مثل «عائلة ونيس».
نحتاج تطبيق القانون بحزم على أي متحرش وبشكل علني وسريع حتى نبتر هذه الحوادث من المجتمع.. بالتوازي مع هذا علينا أن نعمل على حل جذري للمشكلة بتكثيف توعية الطلاب في جميع المراحل.. ويعد قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي بتدريس مادة الأخلاق في جميع المدارس والجامعة خطوة هامة نحو ذلك.
أتمني أن تدرس هذه المادة بشكل فعلي وحياة معاشة داخل جامعتنا ومدارسنا، كما أتمني أن يراعي الأسر أولادهم ويؤدون واجبهم التربوي تجاههم ويراقبون سلوكهم.. أعي أنكم غير قادرين على غلق مواقع التواصل الاجتماعي أمامهم؛ لأننا في عصر التكنولوجيا والتطور ، ولكن عليكم تحصينهم ضد هذا الغول من التدني حتى لا يأكل اليابس والأخضر فينا ونري أنفسنا نبحث عن شراء أخلاق داخل محل تجارة يوجد بداخله لافتة مكتوب عليها «خذ من الأخلاق ما شئت وادفع على مهلك».
للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية