من الأفلام الجميلة التي شاهدتها في عام 2019 فيلم «نوع خاص من الهدوء» A Certain Kind of Silence إخراج ميكال هوجينور؛ فهو من الأفلام التي تطرح بداخلك العديد من الأسئلة في محاولة لفهم ما يحدث على الشاشة من أحداث وتكون الإجابة عكس ما توقعت على طول الخط، و«نوع خاص من الهدوء» من إنتاج التشيك، وهولندا، ولاتفيا.
نحن هنا أمام فتاة شابة رسم شخصيتها بإتقان الكاتب والمخرج التشيكي ميشال هوجينور؛ فهي تتميز بالهدوء وبالكثير من المشاعر الإنسانية الفياضة؛ ولكنها تتحول تدريجيا لتصبح أكثر عنفا ولكن مع احتفاظها بهدوئها الخارجي؛ ولأن القصة مستوحاة من الأحداث الحقيقية، تم عرضها بشكل مثير ورائع بنوع من الرعب الداخلي الغريب، لنعيش نوع خاص من الصمت مع وصول ميا (إليسكا كرينكوفا) مواطنة براغ القادمة إلى منزل ضواحي راقي في مدينة أوروبية غير محددة لبدء وظيفتها الجديدة.
ويستعرض الفيلم المنزل ليشعر المشاهد من الوهلة الأولى أنه عبارة عن قلعة مبسطة، تم الانتهاء منها بأناقة بألوان الباستيل المائية، والأناقة الباردة التي يعكسها أصحابها الذين يبدون وأنهم من طبقة راقية؛ تميل إلى الدقة في أبسط التفاصيل؛ ومع ذلك يشعر المتفرج من أول وهلة أنهم أشخاص لديهم سرا ما فالأم (مونيك هندريكس) والأب (رويلاند فيرنهوت)؛ يشعرون الفتاة من الوهلة الأولى أنها قيد اختبار ويستند نجاحها فيه على مدى ارتباطها بالطفل البالغ من العمر 10 سنوات، سيباستيان (جاكوب جوت)، فتحاول «ميا» التواصل مع الطفل، ولكن والداه يلزمانها بقواعد صارمة في التعامل معه يجب عليها إتباعها، وإلا فقدت عملها كسابقاتها.
وفى وقت قصير، تبدأ الأم والأب في تغيير ميا وإعادة تشكيلها بطرق خفية نفسياً. إنهم يقتحمون خصوصيتها بشكل كبير ويفرضون عليها نظامها الغذائي والحياة الاجتماعية والاتصالات مع العالم الخارجي. في البداية رفضت التعاون ميا معهم؛ ولكنها في النهاية أجبرت على إخضاع سيباستيان للضرب الجسدي العنيف الذي لا معنى له ويأخذ كشكل طقوسي يومي، يعتقد المشاهد طوال العمل أنه بسبب الانضباط العام وليس العقوبة المحددة.
ومع تهديدها بفقدان وظيفتها إذا احتجت، إلى جانب شخوص آخرين في المنطقة يشجعونها على قبول الواقع؛ تتغير وتصبح شخصية أخرى بها قدر من تبلد المشاعر؛ وتصبح حياتها نوعًا من التجربة على مدار 24 ساعة، حيث تكون للطاعة المطلقة للسلطة الأولوية تأثيرا على أخلاقيات الشخصية، واستسلام أخلاقي يؤدي بها إلى قيام علاقة جنسية عابرة بالأمر المباشر غير المعلن، الهدف منها أنجاب طفل؛ ولا نعلم لماذا يطلبون منها هذا الأمر وخاصة أنهم يعيدوها بأن يتنازلوا لها عن جزء من ثروتهم مقابل ذلك.
وهذا الجو الرائع وكأنه لوحة من الألوان الإسكندنافية الهادئة والخفيفة، وأعمال الهندسة المعمارية ذات الطابع نعيش مع A Certain Kind of Silence تلك التجربة السينمائية الغريبة والمليئة التفاصيل الجمالية المرعبة في ظل الوضع الغامض الذي لا تفسير له مما يضيف وزناً عاطفيًا إضافيًا إلى شعور ميا باختلال توازنها وفقدانها لشخصيتها الحقيقية، والذي نشعر فيه بأسلوب المخرج المتميز في عرض الأحداث بالتشويق البطيء متجنبا القفزات الدرامية لأفلام الرعب التقليدية..
وفى النهاية نكتشف من خلال التعليقات التوضيحية التي تظهر على الشاشة عن القصة الحقيقية وراء نوع معين من الصمت. لنعرف أن الأحداث المزعجة هنا حدثت بالفعل في الحياة الواقعية؛ وإذا كان الفيلم ليس مستوحى عن قصة حقيقية، ولكن القبيلة التي يتحدث عنها الفيلم موجودة بالفعل في الواقع، ومن خلالهم وصلت للمخرج فكرة الفيلم التي قدمها، ولم يشر إليها المخرج إلا في نهاية الفيلم وليس في أوله كما هو معتاد، لأنه أراد أن يتلقى المشاهد الفيلم من وجهة نظره أولاً ويحكم عليه بطريقته ثم يقول له في النهاية إن هذه القبيلة موجودة بالفعل.
تلك القبيلة موجودة من السبعينيات وأغلبهم يعيش في مناطق ريفية أو مزارع، ومنهم جزء يعيش في طبقات عليا في المجتمع، ولهم كاهن كبير يفسر الكتاب المقدس بطريقة معينة، وتلك القبيلة لها فروع في عدة دول كثيرة، وفى الفيلم ظهروا على أنهم ألمان، الحوار كان يدور في الفيلم بـ3 لغات وهي الألمانية والإنجليزية والفرنسية. وبمشاهد سريعة أرشيفية مأخوذة من كاميرات مراقبة شاهدنا أطفال صغار يتعرضون للإيذاء البدني؛ نتيجة طقوس دينية غريبة.
الطريف أن المخرج كان لديه نسخة أخرى من الفيلم كانت لا تحتوي على المشهد الأخير الذي يوضح أن تلك القبيلة موجودة على أرض الواقع، ولكن ردود الأفعال التي وصلته بعد عدة عروض للفيلم وعدم تصديق الجمهور لتلك القصة جعلته يضيف المشهد الأخير، ولقد ظل المخرج في حيرة من أمره لمدة عام حول تفكيره في إضافة المشهد من عدمه حتى استقر في النهاية على إضافته، وبعدها بدأت ردود الأفعال التي تصله تصبح إيجابية أكثر، والجمهور أحب الفيلم أكثر.
واسم الفيلم «نوع خاص من الهدوء»، هو النوع الخاص من الهدوء الذي يتعلق بالصمت على بعض الجرائم التي يرتكبها البعض والتي يصحبها صمت ليس في محله، فالفيلم يقدم قصصاً حقيقية لشريحة من المجتمعات المنعزلة التي تنطوي على الكثير من الأسرار الظلامية رغم تقدمها المادي والتعليمي والحضاري، ويعتقدون أنهم يقيمون بصنع المسيح المخلص بأن يحضروا أطفالا يربوهم على تحمل الألم اعتقادا أن من بينهم سيظهر المسيح؛ وفى نهاية العمل توصلنا إلى أن هذا الطفل الجميل المسكين الذي يعذب جسدياً يومياً دون أي ذنب اقترفه؛ لم يكن أبنهم وهو كالكثيرين تم التخلص منهم ولا يعلم المحققون مكانهم؛ وخاصة أن الصبي الذي كان مبرمجا وخاضعا بشكل للإيذاء البدني، تمرد وحاول قتل مربيته بطنعها في بطنها وهذا المشهد يفهم من سياق الفيلم وتتابع الأحداث .
وفى النهاية نحن أمام عمل يشير بحرفية سينمائية رائعة إلى التلاعب بالقيم الدينية، والقيم الإنسانية ففي حوار أكد أن «الحب يساوي صفر.. أي لا يعني شيئًا»، عند سؤال «ميا» للطفل عن نظام تسجيل التنس، فقال لها Love means Zero. وينبه أيضا إلى أننا جميعا قد نسقط في براثن تأثير التلاعب النفسي بفكرة الطاعة وعدم إعمال العقل في الكثير من الأمور دون أن ندرى وهو ما يحدث في العالم الآن على المستوى الديني والمجتمعي.
للمزبد من مقالات الكاتبة اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية