مابين التنوع والتميز في عالم السينما تقف سينما سمير سيف بكل جمالها وتفاصيلها كإحدى أهم أيقونات السينما المصرية المعاصرة؛ فهو من المخرجين الذين قدموا كل أنواع الدراما في السينما والتليفزيون، ويبدو أسمه دوما حاضرا بالأعمال الجميلة والمبهرة تكنيكا وتفصيلا التي قدمها .
ولأن صناعة الأفلام صناعة معقدة يساهم فيها لاعبون مختلفون ولكن يظل المخرج هو صاحب البصمة وهذا ما نستشعره مع سينما سمير سيف، إنه القادر على استقطاب المشاهد إليه؛ والمستطيع التعامل مع نجوم كاتبي السيناريوهات وعلى رأسهم وحيد حامد؛ والمتفرد في تغيير جلود الممثّلين كما حدث مع العمالقة أحمد ذكى؛ نور الشريف؛ وعادل أمام .
هاهو سمير سيف يؤثر الرحيل قبل أن ينتهي العام؛ حارما عالم السينما من تنوعه وقدرته الفائقة على التنقل بين كل أنواع العمل السينمائي؛ وهو القادر بكل حرفية على تقديم كل نوع بشكل متكامل بكل تفاصيله؛ بأبعاده المحسوبة بدقة مستخدما كل أدوات السينما ليبهرك ويمتعك..
سمير سيف في مشواره الطويل كان صانعا للأفلام بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ كان يعمل على رؤيته لأسابيع وشهور وسنوات قبل أن تتحرك الكاميرات؛ وكأنه يصيغ بالضوء الفكرة المكتوبة ويحولها إلى مرئية؛ وبالتالي يتخيل كل لقطة قبل أن ينفذها، ويشعر بكل كادر من البداية إلى النهاية؛ أحيانا يفضل أن تأتي مشاعر أبطاله مباشرة كما في قطة على نار وهذا النوع يقول أكثر مما تنطقه الكلمات.
في أفلام الحركة التي قدمها وهى كثيرة؛ أنت تلهث وراء كاميرته؛ ومع الأعمال الكوميدية يصبح أكثر مرحًا؛ ولا تخلو أعماله من اللحظة الرومانسية التي يمكن أن تميزها بالكثير من صعود وهبوط العلاقة بين أبطاله.
سمير سيف قادر ومتمكن من مزاج فيلمه بالعديد من الأسئلة؛ التي قبل أن نجد لها إجابات نتأملها بشكل عام، وأيضا عند النظر في مشاهد معينة نتفهم ما وراء الأحداث وهذا ما يبدو واضحا في نهاية فيلم الغول؛ لغته السينمائية أقل غموضاً من الكثيرين؛ ولكنها مبنية على التشويق.
أنه المتمكن من تشكيل فريق عمل متجانس من الكثير من الفنانين والتقنيين الذين يعملون وراء الكواليس، فيحفّزهم ليتجاوزوا حدود الإبداع ويجعلوا ما يبدو مستحيلا ممكنا.
تستوقفني كثيرا الأعمال التي قدمها سمير سيف مع وحيد حامد؛ فكل عمل بها له طبيعته الخاصة ومفرداته المختلفة ورسالته التي تتجاوز العمل بكثير، ففيلم «ديل السمكة» فيلم اجتماعي عام 2003، عن كشاف للنور تجول في أنحاء المدينة، وحدثت مفارقات كوميدية قوية عديدة أمسك بتفاصيلها المكتوبة في السيناريو وحولها إلى شخصيات من لحم ودم مما جعل الكوميديا تنبع من عمق المأساة وخصوصا عندما يكتشف المهنة الأصلية لنور خطيبته لنرى المجتمع المتفسخ الذي يعيش فيه، وكان متفردا في قدرته على أظهار تلك التقاطعات الدرامية والقصص الجانبية، التي صاغها وحيد حامد، حتى مشهد النهاية مستخدما full shot مع ترديد إحدى رباعيات الشاعر الراحل (صلاح جاهين) حتى يختفي تماما فنسمعه يقول:
في يوم صحيت شاعر براحة و صفا
الهم زال، و الحزن راح و اختفى
خدني العجب، و سألت روحي سؤال
أنا متّ، و لاّ وصلت للفلسفة
وفى 2 فبراير سنة 2003. تم إصدار فيلم «معالي الوزير». بطولة الفنان الراحل أحمد زكى. تأليف وحيد حامد. عن رجل تم اختياره بالصدفة في أحد التغييرات الوزارية، ولم يكن هو المقصود. لكنه جاء نتيجة تشابه في الأسماء. ومع ذلك صمد. استمر طويلا في منصبه. رغم فشله وقدراته المتواضعة. إلا أنه بارع في نسج علاقات مع المسؤولين الكبار. بالطبع ما سرده وحيد حامد بسيناريو الفيلم لم يكن خياليا؛ لذلك عبّر سمير سيف عما يدور في الخلفيات من كواليس القصة بأدق تعبير؛ فشخصية الوزير جعل أحمد ذكى يقدمها بأفضل طريقة ممكنة؛ وكأنه برتوريه سينمائي لمعترك عالم الوزراء والفساد المالي والإداري الذي يحدث في الوزارات المصرية، والذي طرحه سينمائيا بقدر عالي من الحكمة والجرأة.
وفى الغول مع عادل إمام وسيناريو وحوار وحيد حامد نحن أما صحفي بإحدى الصحف الكبرى، ذات مساء وفي إحدى الحانات التي يتردد عليها يرى نشأت الكاشف (حاتم ذو الفقار) ابن رجل الأعمال المعروف فهمي الكاشف (فريد شوقي) وهو يقتل عامل البار مرسي ويصيب الراقصة نادية بعد أن رفضت المبيت بشقته، ويقرر عادل إبلاغ الشرطة لكن فهمي الكاشف يتمكن بنفوذه من إبعاد التهمة عن ابنه، إلا أن عادل ينجح في الوصول إلى نادية الشاهدة الوحيدة والتي بالفعل تدلي بأقوالها، ويُقدم نشأت للمحاكمة، في حين يقع عادل في غرام مذيعة التليفزيون مشيرة (نيللي) ابنة فهمي الكاشف من زوجته القديمة، وتمر الأيام ويحين صدور حكم المحكمة الذي يصدر ببراءة نشأت، حينها يصاب عادل بالإحباط، ويقتل فهمي الكاشف بواسطة البلطة وسط رجاله.
لقد منح سمير سيف حينذاك عادل إمام واحدا من أقوى أدواره في السينما ، دور مليئا بالمواقف المختلفة والمشاعر المتضاربة وأخرج منه أجمل ما فيه؛ ووظف مجهوده بشكل كبير، حتى إنه جعل المشاهد يتعاطف معه بدرجة كبيرة، ويقبل حله الفردي؛ وبذلك تمكن سمير سيف من طرح رؤية مثير وجريئة للقضية؛ من خلال أحداث متصاعدة درامياً حتى تصل إلى ذروتها في النهاية، كل ذلك كان من خلال عمل مخرج يملك أدواته ليعطى تصورا لبعض جوانب الفساد الاقتصادي والاجتماعي وسيطرة المادة التي يمكن بواسطتها شراء كل شيء في ظل سياسات الانفتاح الاقتصادي والتي كانت بدورها هي جوهر النظام الرأسمالي، إلا عندما يستيقظ الضمير الإنساني رافضاً هذه المساومة.
وفى الحقيقة أن مشهد قتل عادل لفريد شوقي ظل محور نقاش حتى الآن، فبعد أن ضُرب الغول على رأسه سمعناه يصرخ (مش معقول ، مش معقول) وهو يتراجع إلى الخلف متأثراً بالضربة التي قضت عليه، ثم الفوضى التي أعقبت ذلك؛ وبذلك نخرج من فكرة القضاء على قانون ساكسونيا إلى قانون الغاب؛ منتهى العمق والرؤية السينمائية التي تطرح الأسئلة المحيرة.
وفى الراقصة والسياسي قصة الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس والقصة تتناول بعض أنواع الظلم والتعسف في استعمال السلطة وضياع الأخلاق. ومن غير شرعية للعلاقة بين السياسة وراقصة معروفة والكشف عن أسرار وخبايا كبار المسؤولين في الدولة. بطولة الفنانة نبيلة عبيد صلاح قابيل ومصطفى متولي؛ وهو لقاء جديد مع عالم وحيد حامد للدخول في معترك وخفايا الحياة السياسية والفيلم نقلة نوعية في أداء نبيلة عبيد؛ واستغراق في تفاصيل فنية من سمير سيف جعلت المشاهد يعيش تصاعد الأحداث بكل جوارحه .
أما آخر الرجال المحترمين من تأليف وحيد حامد أيضا ومن إنتاج عام 1984، وبطولة نور الشريف وأحمد راتب وبوسي وعلي الشريف عن أستاذ فرجاني الذي يصطحب تلاميذه في رحلة من الصعيد إلى حديقة الحيوان ولكن يفقد طفلة أثناء انشغال المشرفين عنها حيث تحتفظ بها امرأة كابنه لها من بعد فقدانها لابنتها. الفيلم من خلال الفهم العميق لسمير سيف لما كان يريد السيناريست قوله لم يكن فقط محاولة تعريف المجتمع المصري من خلال مفاهيم بسيطة ومشاعر مختلفة؛ بل نجد الفنان يحاول أن ينقد المجتمع المصري بسلبياته مثل قضايا الثار والتخاذل والفقر وبالرغم من كل هذه المحاورات المصرية البحتة إلا أن الفنان نور الشريف يقدم الحل في بعض كلما بسيطة في نهاية الفيلم (الإنسان هو الإنسان الخير الأصل فيه والشر هو اللي دخيل عليه).)
سوق المتعة إنتاج عام 2000، بطولة محمود عبد العزيز، إلهام شاهين و فاروق الفيشاوي، تدور حول أحمد حبيب الذي يخرج من السجن شخصاً غريب الأطوار، يميل دائماً إلى ممارسة هواياته العجيبة بمتعة لا مثيل لها، مثل تنظيف دورات المياه، والحنين دوماً إلى رفقاء السجن، وتتحقق له تلك الرغبات جميعاً وغيرها عندما يلتقي في حمام شعبي زعيم العصابة، حيث يفاجئه أنه باستثمار سنوات سجنه يتضح أن له مكافأة تقدر بسبعة ملايين جنيه!، ولكن بشرط واحد مرتبط ببقائه على قيد الحياة، وهو عدم التفكير حتى في السؤال عما يخص تلك العصابة.
يبدأ أحمد حبيب في التعويض عما فاته من سني عمره المُهدرة، بالاستمتاع بكل ملذات الحياة، حتى يدرك أحمد في النهاية أنه غريب عن المجتمع الذي يحيا فيه بجسده فقط، فيقرر الخروج عن المحظور ويفتح على نفسه أبواب جهنم بطلبه مقابلة كبير العصابة التي حولته إلى تلك الصورة الحيوانية. مشهد النهاية قدم بإتقان وفهم رائع من سمير سيف لمعنى الحياة داخل الإنسان؛ مشهد نفذ بإتقان وحرفية فنان، وكأنه يتنبأ بانهيار دولة الفساد والانحراف ووضع أصابعه على الجراح بل وأشار إليه، محترف سينما بأسرع الطرق وأكثرها حرفية مع الأدلة والقرائن، وبشكل غير متطابق بالكامل ولكنه قد يكون بمثابة كلمة لما أراد قوله مع وحيد حامد في فيلم الراقصة والسياسي .
ومن أفلامه الرائعة المتوحشة إنتاج 1979، بطولة سعاد حسني ومحمود عبد العزيز وليلى فوزي وتوفيق الدقن ورجاء حسين ورغم أن الفيلم لم يحقق النجاح المرجو إلا أن بصمة سمير سيف كانت واضحة فالعمل الاستعراضي كان به قدر هائل من مناقشة العديد من الأفكار.
ومع سعاد حسنى ونور الشريف كان فيلم غريب في بيتي والذي يحتوى على المشاهد التي لا تمحى من ذاكرة السينما المصرية، والذي ظهر فيه نور الشريف بدور «كابتن شحاتة أبو كف» لاعب كرة القدم بنادي الزمالك، وتدور أحداث الفيلم حول صراع على الشقة السكنية، ومن ناحية أخرى محاولات بعض لاعبي كرة القدم المنافسين لكابتن شحاتة أبو كف في الإيقاع به في فخ العلاقات النسائية لتشتيت تركيزه، واستعانوا في هذه المحاولات بالفنانة هياتم، لإغراء «أبو كف» حتى أن الفنان حسن مصطفى الذي لعب دور المسئول عن «أبو كف» وجه للفنانة هياتم جملة مازال الجمهور يرددها إلى الآن: «أنتي السبب في سوء حالة المنتخب القومي».
أما فيلم المشبوه إنتاج سنة 1981. من إخراج سمير سيف، وتأليف إبراهيم الموجي، بطولة عدد كبير من النجوم المصرية مثل عادل إمام، سعاد حسني، سعيد صالح، فاروق الفيشاوي، فؤاد أحمد، علي الشريف، كريم عبد العزيز.
ويعتبر الفيلم واحدًا من أفضل أفلام عادل إمام وأول لقاء يجمع بين الفنان عادل إمام، الفنانة سعاد حسني، حيث كان فيلم حب في الزنزانة اللقاء الثاني بينهما، وكان المنتج يود في البداية تغيير المخرج سمير سيف واستبداله بمخرج آخر، فهدد عادل إمام بالانسحاب من الفيلم لو حدث ذلك؛ الطريف أن المخرج سمير سيف، حاول تحويله لمسلسل ولكن كانت هناك مشكلات عديدة أهمها العثور على ممثلين فدائيين، كما كان يقول سمير سيف؛ لأن الناس ارتبطت أذهانهم بالعمل الأصلي.
وفى النهاية سمير سيف ليس فقط أحد أيقونات السينما المصرية؛ ولكن أيضا أكثر العاملين بها دماثة في الخلق وقدرة على احتواء الجميع وربما يبدو هذا من حالة الحزن والهلع المصاحبة لموته المفاجئ.
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية