السينما تعشق الصورة ومن خلالها تطرح الأفكار؛ والمخرج المتحكم في أدواته البصرية كنز لأنه لا يضع المشاهد في مزيد من الارتباك؛ بل يتركه لطرح مزيد من الأسئلة بداخله؛ وبذلك لا يفقد عنصر مهم من عناصر الجذب والتشويق؛ بل إن العكس هو الصحيح في معظم الأحيان تلعب الإضاءة تأثير معينا لتخرج النتائج مبهرة بالإضاءة المنخفضة وذات الظلال القاسية نوعا ما؛ وهذا ما نراه مع المخرج القادر على التحكم في أسلوب توزيع النور والظل لأحداث تأثير مضاد نستشعر فيها إحساسا قويا بحالة الحزن الممتزجة بالقهر والفقر؛ أو السعادة المفعمة بالحياة.
تتفرد السينما الجميلة في قدرتها الدائمة على طرح الأفكار، فتستمرّ في طرح ما يتعلّق بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وترتبط هذه الأسئلة بصميم وجودنا ، فالمبدع فيها يتلهف لمعرفة أسئلة الوجود الجوهرية؛ وبإبداعه يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة؛ وكأنها الغاية النهائية لسعي السينما الدائب نحو الحقيقة، ويحتاج ذلك التقصّي بعمق عن الماضي والحاضر والمستقبل؛ ورغم عدم وصول السينمائي مطلقًا إلى أطروحة نهائية في إجابته …وكما في عبارة ماكبث (أحد الشخصيات في مسرحية لشكسبير): ليست الحياة إلا ظلًا يمشي، ممثل مسكين يتبختر ويغضب في ساعته على مسرحها ثم بعد ذلك لا يُسمع له صوت؛ إنها حكاية مليئة بالصخب والعنف يرويها أحمق ولا تعني شيئًا، وفى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي هذا العام مجموعة من المبدعين يطرحون أسئلة مختلفة من خلال أعمال هي بالنسبة لهم الإجابة.
ومن تلك الأعمال «مغادرة أفغانستان Leaving Afghanistan » الذي يطرح سؤاله بينما تستعد البلاد لاستعراضها السنوي ليوم النصر، فيثير الفيلم أسئلة غير مريحة عن الحرب السوفيتية في أفغانستان 1989؛ وكأنه يريد القول: أعتقد أن مجتمعنا بحاجة إلى البدء في فتح جراح الحرب؛ سواء أكانت أفغانستان أو الشيشان، ويبدو أنه كما يظهر من ردود الفعل العنيفة من هذا الفيلم أنهم يخشوا الحديث عن الحقيقة القائلة بأن روسيا لم تكن دائمًا الرجل الطيب، وجاء الفيلم في الذكرى الثلاثين للانسحاب السوفيتي للقوات من أفغانستان التي أودت الحرب التي استمرت تسع سنوات بحياة أكثر من مليون مدني أفغاني وأكثر من 14000 جندي سوفيتي.
في ذلك الوقت ، تم الترحيب بقرار الأمين العام للحزب الشيوعي ميخائيل جورباتشوف بسحب الجيش السوفيتي من البلاد باعتباره نهاية طال انتظارها لنزاع دموي وأدان قرار غزو الكونجرس باعتباره خطأ من قبل الكونجرس. وفي السنوات الأخيرة ، سعى بعض السياسيين الروس إلى إعادة صياغة الحرب باعتبارها نجاحًا وطنيًا، في هذا العمل يبدوا طرح لونجين للحرب وكأنه الإجابة «الأكثر صدقًا» التي شاهدها في السينما الروسية في السنوات العشرين الماضية .
وفى فيلم« fire will come » النار ستأتي من إخراج أوليفر لاكس، ومن إنتاج فرنسي وإسباني ولوكسمبورجي، يكون السؤال ما حقيقة النار التي تضرم بين الحين والأخر وما علاقة حرق الغابات بأنفسنا؛ والإجابة من خلال خروج شخص مهووس بإضرام الحرائق من السجن وعودته إلى بلدته في غاليثيا الإسبانية، يفوز بجائزة الإسكندر الذهبي بمهرجان تيسالونيكي الدولي للسينما، كما نال بطل الفيلم أمادور أرياس جائزة أفضل ممثل.
قد يتساءل البعض ما أهمية فيلم «جودى» ولماذا حقق كل الإيرادات في العالم والإجابة تكمن في أنه تعيدنا إلى حياة أحدى مبدعي «ساحر أوز» ذلك الفيلم موسيقي والكوميدي الدرامي والخيالي الأمريكي من إنتاج شركة مترو جولدوين ماير عام 1939، وهو أنجح وأشهر اقتباس من رواية ساحر أوز العجيب للكاتب ليمان فرانك بوم التي صدرت عام 1900. كل واحد في العالم وخاصة من ولد في القرن العشرين مرتبطة طفولته بالفيلم؛ وخاصة جودي جارلند التي قامت بدور دوروثي جيل. وشارك معها الكلب تيري بدور توتو. و راي بولجر، جاك هالي وبه أفضل أغنية «فوق قوس قزح» Over the Rainbow. ومع بث الفيلم على التلفزيون عام 1956 على شبكة سي بي اس فقدم هذا الفيلم إلى جمهور أوسع، وأصبح عرضه تقليدا سنويا، وهو ما جعله أحد أشهر الأفلام في تاريخ السينما. ووضعته مكتبة الكونجرس في قائمة أكثر الأفلام مشاهدة على شبكة تلفزيونية، كما أدخلت الفيلم أيضا في السجل القومي للسينما في دورته الأولى عام 1989، وذلك للحفاظ عليه لما يه من «أهمية ثقافية وتاريخية وجمالية» كما أنه أحد الأفلام القلائل الموجودة على سجل ذاكرة العالم لمنظمة اليونسكو.
ومن خلال فيلم جودى جميعنا ننتظر الإجابة عن أسباب رحيل بطلة ساحر أوز والأجمل أن الإجابة مقرونة بقرار (رينيه زيلويجر) بتقديم ألبومها المنفرد لأول مرة في مسيرتها الفنية، حيث ستقوم بغناء بعض الأغاني المشهور لـ (جودي) ؛لنعيش الأحداث في شتاء 1968، حين تصل المؤدية الأسطورية (جودي جارلاند) إلى (لندن) لأداء سلسلة من الحفلات الموسيقية، والتي قد يضحي كثيرون بنزاهتهم الفنية للمشاركة بها.. وهذا بعد مرور ثلاثين عامًا على انطلاقة نجوميتها في فيلم (ساحر أوز)، فبينما تعد جودي نفسها للحفل، تتصارع مع الإدارة، سحر الموسيقيين، ذكريات طفولتها وأصدقائها ومعجبيها.
أما سؤال« Little Joe» جو الصغير الحاصل على(جائزة أحسن ممثلة في مهرجان كان)،وفيلم درامي بريطاني نمساوي لعام 2019 من إخراج جيسيكا هاوزنر يحتاج فيحتاج الطرح منا إلى بضع دقائق فقط ليجعل السؤال مقرونا بالرعب من نبات بسيط؛ وهذا الفيلم سيفعل في البيوت الزجاجية ما فعلته« Psycho » للاستحمام؛ حيث يبدأ البحث في مشاتل Planthouse الحيوية في إنجلترا ، حيث أصبح الاحتكاك بين العلم الحديث والبيولوجيا العضوية عند اختراع بطلة الفيلم سلالة هندسية وراثية سميت على اسم ابنها في سن المراهقة (كيت كونور). وتدعو السلالة بأكملها «ليتل جو»، وفي تناقض صارخ مع الأبوة التي تنجب طفلاً محتالًا، تستمتع بالتحكم الذي تتمتع به على طفلها الأخضر الأصغر. أنه هنا أكثر من مجرد زهرة جميلة مع مجموعة من الحمراء المغلقة في طرف عنقها ، والتي تؤدي رائحته إلى إطلاق الأوكسيتوسين ، مما يؤدي بدوره إلى شعور عام بالرفاهية.. لكن ماذا يحدث عندما تنتهك البطلة البروتوكول وتأخذ إحدى العينات إلى شقتها؛ الإجابة ستكون أكثر رعبا مما تتوقع .
أما بشاعة الإجابات عن الأسئلة المطروحة باستخدام المراهقين في الحروب؛ تراه بوضوح في monos مونوس الفيلم الدرامي للحرب عام 2019 تم إنتاجه عالميًا من إخراج أليخاندرو لاندز ، من تأليف لاندز وأليكسيس دوس سانتوس وإنتاج فيرناندو إبستين وسانتياجو زاباتا وكريستينا لاندز ولاندز نفسه. وتبدأ الأسئلة بالفيلم بمشاهد تظهر مجموعة من المراهقين المُجندين في جماعة حرب عصابات تسمى «المنظمة» والتي من غير المعروف ما هي القضية التي تُحارب من أجلها أو البلد الذي تحارب فيه، كما لا يعرف أي شيء عن المجندين أنفسهم سوى أنهم فصيل مقاتل يدعى «قرود» ويلقبون بألقاب وليس بأسمائهم الشخصية.
وحرص «لاندز» وكاتب السيناريو المشارك معه المخرج الأرجنتيني «ألكسيس دوس سانتوس» في المشاهد التمهيدية، أن يقدما صورا موجزة عن براءة عالم المراهقين المجندين الذين يمزجون الجد باللهو ويختلط لديهم اللعب بالقتال والتدريب الصارم، وتقمع روح الشباب المتمرد لديهم بنظام من الطاعة العمياء للأوامر.
أما أسئلة المبدع بيدرو كوستا فهي من خلال دراما مظلمة يائسة تستند إلى تجارب الحياة الحقيقية للنجمة فيتالينا فاريلا إذا كان الطرح في بعض الأحيان تحديا للمشاهد؛ فقصتها القاتمة بدأت قبل ثلاثين عامًا ، مع بداية حياتها الزوجية في الرأس الأخضر ، واستقرت أخيرًا في المنزل الذي بنته ، من الطوب ، مع زوجها. وغادر زوجها ، مثل كثيرين ، إفريقيا للحصول على فرص أفضل في الخارج ، لكنها أقسمت لنفسه اكذبا أنه بمجرد أن يستقر في البرتغال، كان سيرسل لها. ولكنه لم يفعل؛ و بعد مرور 30 عامًا ، اشترت فاريلا أخيرًا تذكرة الطائرة الخاصة بها إلى لشبونة ؛ ليس لتوبيخ زوجها ، ولكن لدفنه؛ أسئلة المخرج في هذا العمل قد تكون تكملة بعد فيلمه عام 2014 Horse Money ، حيث يواصل المخرج بيدرو كوستا تجاربه في التوثيق ، حيث يحكي قصة حزينة ؛ على الرغم من أن هذا سيسعد عشاق أعمال الفنان البرتغالي فقد فاز الفيلم بالفعل بجائزة الفهد الذهبي في لوكارنو – فمن المرجح أن تجعله بساطته اللطيفة والموضوع القاتم من الصعب بيعها حتى لإثارة الجماهير.
وفى فيلم «إن شئت كما في السماء» للمخرج إيليا سليمان الأسئلة كثيرة ومتعددة ؛ ويغلب عليه المتعة الشخصية للمخرج الذي يميل لاستعراض حياته مقترنة بما يحدث في فلسطين؛ فهو يصرح دوما أن ما يهمه هو التركيز على إمكانيات لا نهائية للمتعة في الفيلم، لافتاً إلى أنه يرى «في المتعة إصرارا على الوجود الفلسطيني»، وأنه «من المهم أن تمنح الصورة المشاهد مساحة ما لاستنباط نوع من الحياة، والمتعة هي أساس الصورة، وهي بالنسبة لي سياسة وطريقة حياة»، ويعود ويشدد «لو قُدمت لي رواية ذات يوم شعرت بهذا الاتصال معها ليس لديّ أي تحفظ، بل على العكس، سأخوض هذه التجربة، لكن حتى الآن لم يحدث أن تعثرت بهكذا رواية»، لذلك يستكمل الفيلم سرد سيرة المخرج وسيرة عائلته والوقائع التاريخية التي طرأت على مدينته في ما قدمه في فيلم قبل الأخير مستعرضا العام 1948 مع حدوث نكبة فلسطين وقيام دولة إسرائيل. عندما أعتمد سرده على يوميات والده التي وثق فيها أيام الحرب وما تلاها من أحداث؛ وقبل ذلك في فيلمه الذي لفت الأنظار له «أيادي الهية».
أما «تيرنس ماليك» فقادم بأسئلته لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته 41 برائعته التي قدمها في مهرجان كان في دورته الأخيرة «حياة خفية» A Hidden Life من خلال رحالة متجرد من العالم المادي، ويسعى للاتصال بعالم مغاير لعالمنا، به الكثير من التفسيرات التجريبية عالم من «يوتوبيا» أسطوري له ألغازه الخالدة؛ بتنويعاته البصرية المذهلة؛ فلا يخلو مشهد من أفلامه من أثر الضوء في التكوين البصري؛ و المزج بين الضوء الطبيعي والصناعي مع مصاحبه الظل، وحركة الكاميرا بحيث تواصل كل لقطة الحركة في نفس الاتجاه الذي انتهت إليه اللقطة السابقة.
وللمخرج الصيني وانج شياو شواي أطروحات وأسئلة هامة في عمله «غبت طويلًا يا ابني» وجميعها تهدف إلى مناقشة سياسة الحد من النمو السكاني في الصين والتي تمت من خلال ضوابط صارمة؛ على مدار 36 عامًا (1979-2016) ، يُزعم أنها منعت أكثر من 400 مليون مولود. طارحا عواقبه على نطاق واسع واسعة وطويلة الأمد. كنتيجة مباشرة ، أصبح لدى الصين الآن شيخوخة سريعة في السكان.
هناك تأثير غير مباشر يتمثل في اختلال التوازن بين الجنسين بشكل ساحق ، حيث حاولت العائلات الإجهاض الانتقائي. يحسب الديموجرافيون أن السياسة قد تستغرق 50 عامًا أخرى للاسترجاع. الفيلم يسير في نفس نهج الفيلم الوثائقي الذي عرض في مهرجان الجونة بدورته الثالثة فيلم (أمة الطفل الواحد) ؛بما فيه من أحداث صادمة؛ وحكايات لا يمكن أن تتحملها المشاعر الإنسانية؛ و يرفضها العقل؛ ولكنها للأسف حقيقية؛ لذلك فاز الفيلم المأخوذ عنها بجائزة لجنة التحكيم الكُبرى للفيلم الوثائقي في الدورة الـ35 لمهرجان سندانس السينمائي، والفيلم من إخراج نانفو وانج وجيالينج جانج، وهو إنتاج مشترك بين الصين، الولايات المتحدة الأمريكية.والفيلم ينقلك إلى سنوات ماضية حيث تدور الأحداث حول عائلة صينية تعيش في حقبة أمة الطفل الواحد، حينما ألزمت الحكومة العائلات بتقليل الكثافة السكانية عن طريق إنجاب طفل واحد فقط لكل عائلة؛ لذلك كانت العديد من الأسر وخاصة في الريف تتخلص من الطفل إذا كان أنثى، بإلقائه في السوق وفى الغالب لا يقوم أحد بأخذه إلى إن يموت؛ أو يتم إجهاض النساء ولو في الشهور الأخيرة وغالبا يكون الطفل حيا عندما يقذفون به في القمامة، ويكتب على الكيس الذي يحتويه نفايات طبية .
الفيلم بمثابة تأريخ لسياسة «الطفل الواحد»، والأجيال الصينية التي تشكلت بناءً على هذه التجربة الاجتماعية، من خلال شهادات أمهات، وموظفين رسميين، وآباء، ونشطاء سياسيين. تلك السياسة التي استمرت من 1979 إلى 2015.وكانت هدفها الحد من النمو السكاني في الصين وقد فُرضت عام 1979، أي بعد عام من الإصلاحات الاقتصادية.
وأخيرا ومن خلال فيلم «عن الأبدية» تطرح الأسئلة الوجودية في ظل الحصول على (جائزة أحسن مخرج بمهرجان فينيسيا) لروي أندرسون الذي يقول :آمل أن أتمكن عن طريق أفلامي من الإفصاح عن حساسيتنا تجاه بعضنا البعض وأن أُظهر أننا وجوديًا مخلوقات في غاية الضعف. إلى جانب أننا نملك وقتًا ضئيلًا جدًا في حياتنا. ليست هناك نهاية سعيدة لأي منّا؛ولهذا السبب تحديدًا علينا أن نكون أكثر مسؤولية تجاه ما تبقى لنا من الوقت.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية