نون والقلم

فصل جديد من فوضى السياسة الدولية

قبل نحو عقد من السنوات شاع تعبير الفوضى الخلاقة المنسوب إلى وزيرة الخارجية في عهد جورج بوش الابن كونداليزا رايس. لقد بدا هذا التعبير وكأنه من المجازات الأدبية لما ينطوي عليه من تأويلات مفتوحة، وكذلك لما انطوى عليه من إبهام سياسي في حينه، ولأن صاحبة المقولة لم تتولّ من جانبها شرح هذا المفهوم. وعلى الأرجح فهذا التعبير يتعلق بحقبة سابقة كانت تسودها عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، وبسط النفوذ الأمريكي على أوسع نطاق في عالم ما بعد انتهاء الحرب الكونية الباردة.
الآن تغيرت الظروف. لم تتخلّ واشنطن كقوة عظمى عن مراكز نفوذها ولكنها حدت من توسعها، وتراجعت عن العسكرة، وذلك مع صعود أوباما إلى البيت الأبيض والذي يعتنق سياسية عدم التسبب بقتل جندي أمريكي واحد.
وها نحن في السنوات الأخيرة نشهد فوضى جديدة في منطقتنا. فما يبدو من انكفاء أمريكي يقابله جموح روسي إيراني. وبالطبع مع احتفاظ دولة الاحتلال الصهيونية بجموحها وتطرفها، وكذلك مع بروز أي احتكاك بين القوتين الصاعدتين روسيا وإيران من جهة، والكيان الصهيوني من جهة ثانية. على أن الأهم من ذلك أن جموح طهران وموسكو في المنطقة قد أفاد من عدة عوامل أهمها صعود «القاعدة» ثم «داعش». فتحت شعار مكافحة الإرهاب الأصولي والتكفيريين تقدمت كل من طهران وموسكو لأداء دور المناهض لهذا المد الأصولي، على أن يكون البديل له هو النفوذين الإيراني والروسي. وقد جاء بعدئذ الاتفاق على الملف النووي الإيراني على مرحلتين، كي يعزز دبلوماسياً صورة طهران الساعية إلى التسويات مع الغرب ورفض المواجهة، وقد لقيت بذلك دعماً ثابتاً من موسكو سواء من خلال عملية التفاوض مع مجموعة الست حيث كانت موسكو عضواً في هذه المجموعة، أو على صعيد العلاقات الثنائية أو في أي مباحثات تجريها موسكو مع أطراف غربية.
شيئاً فشيئاً تحوّل هذا الجموح أو الاندفاع إلى ما يشبه الفوضى. فطهران وموسكو تملآن الفراغ الأمريكي حيثما نشأ. ومن المفيد إبداء ملاحظة هنا ، فالفراغ الأمريكي مطلوب بإلحاح ومرحب به وغير مأسوف عليه، شرط أن تملأه الشعوب بإرادتها الحرة وبالتوافقات الوطنية الداخلية، لا أن تملأه قوى إقليمية ودولية شديدة الطموح. ما بدا خلال السنوات القليلة الماضية من غض نظر أمريكي وغربي عموماً إزاء هذا التطور، أدخل المنطقة بالفعل في حالة أقرب إلى الفوضى. فالدول التي ارتبطت بعلاقات تاريخية وثيقة مع الولايات المتحدة، أخذ القلق يساورها شيئاً فشيئاً تجاه الانكفاء الأمريكي، وبرزت شكوك في صدقية الالتزام الأمريكي بأمن واستقرار دول حليفة.
وقد اتسمت علاقات هذه الدول بالفتور والتشكك مع إدارة الرئيس أوباما وخاصة في ولايته الثانية الحالية.
ذلك يدلل على حال من الفوضى، بأكثر مما يدل على تغيرات. فالتغيرات تتم بتفاهمات واضحة ومعلنة بين سائر الأطراف، غير أن ما حدث هو تغيرات ميدانية وفي نقاط مظلمة، بعيداً عن أية تفاهمات. كما هو الحال في العراق، الذي أخلاه الأمريكيون للقوة الإيرانية الطامحة طموحاً لا حد له. وفي اليمن بدا الموقف قبل نحو عام مشابهاً، فقد بدت واشنطن على استعداد للقبول بانقلاب الحوثيين والتعاطي معه كأمر واقع، رغم أن هذا الانقلاب شكل التفافاً حاداً على تفاهمات إقليمية ودولية بشأن الوضع في اليمن بعد إلزام علي عبد الله صالح بالتنحي.
هناك فوضى تسمح بها واشنطن، ويستثمرها التحالف الإيراني الروسي إلى أقصى حد، والمتضرر هو شعوب المنطقة. ويقيناً أن موسكو وطهران لا تجدان قيادة أفضل للولايات المتحدة من القيادة الديمقراطية الحالية، والحملات الدعائية ضد واشنطن من قبلهما ترمي إلى انتزاع مكاسب أكبر، وليس الاعتراض على السياسة الأمريكية المتبعة التي توفر بيئة مواتية لاندفاع هذين الطرفين.
وقد جاء التدخل العسكري الروسي الأخير، وما تبعه من زج قوات وميليشيات إيرانية إلى سوريا ، ليدلل على أن الفوضى تأخذ منحى متصاعداً، فواشنطن أبدت اعتراضات «فنية» على هذا التدخل، وانتقاداتها جاءت بنبرة هادئة تحمل من النصح بأكثر مما تنطوي على اعتراض. والمثير في الأمر أن الوجود العسكري الروسي ، متزامناً مع النشاط الجوي للتحالف الدولي ضد «داعش» ، يثير مخاطر جمة باحتكاكات بين الطرفين، لكن رغم ذلك لم تبد واشنطن اعتراضاً، يضاهي الاحتجاج على التدخل الروسي غير المباشر في أوكرانيا مثلاً. فيما التقبل الضمني للتدخل العسكري الروسي يقوم على افتراض أنه من المفيد أن تلقي روسيا بثقلها في التصدي للتنظيم الإرهابي. غير أن روسيا تعتبر كل المعارضة السورية إرهابية، وبهذا فإن الفوضى التي تشهدها سوريا تأخذ بالفعل منحنى خطراً، يقع ضرره بالدرجة الأولى على السوريين، كما يسد أبواب الحل السياسي.
إنها فوضى تدميرية تقودها موسكو وطهران، مع غض نظر أمريكي يحيي نظرية ترك جميع الأطراف تستنزف قواها في سوريا ، وزجها في أتون صراع مسلح لا تبدو في الأفق أية نهاية له.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى