الكتابة عن الكثيرات لا تخرج عن كونها حالة من البوح بما في أنفسهن من حكايات وذكريات؛ لذلك عندما انتهيت من قراءة المجموعة القصصية «أنا هويت» سألت نفسي: هل امتلكت «مي مختار» مقاليد الكتابة؟؛ وخاصة أنني وجدت نفسي مع سطورها أمام المرأة التي تبدع عملا مربوطا حتى بالظرف الموضوعي العام، والنساء لديها لا يتحكم فيهن ظروفهَّن أو وجودهن المفروض عليهن؛ معظمهن تمكَّن من اكتساب التعليم والثقافة، المرأة لديها ليست وافدة جديدة على التفاعل مع الحياة؛ والقوة بين سطورها لا تكمن في الفحولة.
والرثاء دوما تعبير عن شيء ذاتي عاطفي يمكن أكثر تلائماً مع حاجات المرأة للتعبير… وبذلك فأنا أرى أن رؤية «مي مختار» الإبداعية إنسانية لا تنتمي لا إلى المؤنث ولا إلى المذكر.
كأنما نحاول أن نبحث عن أشياء نتجاوز بها، نقول بها نحن هنا.. كما لو كنا نبحث عن وجودنا في رموز مضى عليها زمن وقدَّمت تجارب يعني محدودة نسبياً إزاء ما كتبه الرجل.
أنها لم تنصف المرأة، لأنها كانت الجانب الأضعف، والجانب المسيطَر عليه؛ ولكن لأن لها موروث لا يُستهان به وموروث أغنى من الكتابة في أمم أخرى كثيرة. استخدمت عبارات بعيدة عن الجرأة؛ ومع ذلك فهي امرأة حرة وقوية ومسيطرة، لا تعترف بالجانب المقهور المقموع؛ مقدمة نماذج لم تدرس بغربتها الوجودية بتحايل.. التحايل،ولا بالمكر،ولا بالدهاء، والقهر.
وإذاً الرجل كان يرسم صورة المرأة، فكان يدخل في سيكولوجية المرأة ويقدمها..لذلك «مي مختار» أيضاً تدخل في سيكولوجية الرجل وتتقمص دور الرجل في بعض الأحيان.
الكتابة عند «مي مختار» تتضمن التعبير عن الأنا، دائماً عن النفس، فهي لم تكن كاتبا يكتب لأنه يريد أن يُغني فيكتب شعراً غنائياً، أو إنسان يكتب لأنه يريد أن يعيد بناء تاريخاً كاملاً، أو يكتب ملحمةً.
المرأة لديها تنتسب إلى أطفال، وتنتسب إلى زوج، وتنتسب إلى بيت، ومسؤوليتها تزيد وتتراكم..هي إذن تناضل على عدة جبهات، الكتابة هي جبهة من هذه الجبهات. لذلك فأن أشعر أن أبطالها بحاجة طوال الوقت لكي يسرقوا وقتاً أضافيا لينجزوا ما تطلبه منهم الحياة.
أننا أمام تجربة التنوع فيها هو سر الثراء الحقيقي للكاتبة المبدعة، أننا أمام نساء تركض، ونركض معها باستمرار، أنهن تحت ضغط، أنهن أمهات، وعاملات وكاتبات ويقمن بأكثر من مهمة.. هذا من زاوية من الزوايا مرهق، من زاوية من الزوايا قد يكون مهلكاً، لكنه إن لم يهلك فهو يعطي للكتابة ربما امتلاءً بخبرات أكثر، بمعارف أكثر وبمساحات من المشاعر؛ و في تقديري يعني شكل من أشكال الحياة؛ الشكل الأعمق والأكثر إرضاءً للذات في مقابل الموت.
إن «مي مختار» تضع الكتابة في علاقة بين الحياة والموت، نوع من الشعور إنك تعيشين بالشكل الأعمق في علاقتك مع الحياة، مؤكدة لماذا يكتب الإنسان، والمرأة إنسان ربما إرضاءً للنفس، فالكُتَّابة أكثر متعة نشعر بها رغم كل العذاب وعناء الكتابة .
إن «مي مختار» تعيش تجربة خاصة في «أنا هويت»، علاقتها بالمكان، علاقتها بالزمن، علاقتها بالأشياء أحاسيسها، عندها امتدادات؛ فيها خصوصية؛ وكأنها تريد أن تضيف إلى الأدب شيئاً جديداً.
كأن الأنثوية تحاول أن تلعب على الذكورية لعبة معكوسة، فينقلب الصراع بين الجائعين والمُتخمين إلى صراع بين الشوارب والأساور، لكن وسط نماذج واقعة، من امرأة جميلة ورائعة ومثقفة؛ بهذا النموذج الفردي، والنموذج الكامل، الموجود بالواقع، هي كما يشتهيه الرجل وكما يرفضها الرجل؛ بشكل كأنه دعوة غير مباشرة لإخراج الأدب النسوي من حظيرة الأدب الرسمي، وإدخاله في عالم الأدب ذو القيمة الفنية والإبداعية لهذا النص. وتبدو في المجموعة الخاصة للكاتبة «مي مختار» مثابرتها وإصرارها على أن تحدث فرقًا وألا تستسلم لأي صعاب تواجهها في حياتها.
لذلك فلا عجب أن نرى دوما بينا سطورها تلك المرأة ذات النظر الثاقب الذي منحها حكمةً وقدرةً خارقةً علی سرعة البديهة … ولتتعرفوا أكثر إلى «مي مختار» تعالوا إلى مقتطفات من إبداعها:
باتت « تفاحه» ليلتها تطيل النظر لطفليها في فراشهما تتساءل عن مصيرهما لو عادت بهما إلي ذلك الثالوث المرعب الفقر والجهل والمرض في بلدتها جنوب الصعيد، خرجت من غرفتها للسطح وتحت ظلام الليل بكت خوفا من المستقبل الذي ينتظرها هي وطفليها بعد مقتل زوجها في المحروسة، وعند الصباح أعدت لهما الإفطار والحليب ونزعت عنها جلبابها وطرحتها وشبابها والتقطت ملابس زوجها المعلقة علي الحائط واحتضنتهم وفي عيناها نظرات تحدي للمجهول، قميصه وبنطاله، ارتدتهما ووضعت علي رأسها ربطة للرأس من الخلف وودعت طفليها وأغلقت من خلفها باب الغرفة، سارت تفاحه في حارة الصنادقيه أمام دهشة أصحاب المحلات والعمال لارتدائها ملابس زوجها وظنوا أنها قد أصابها لوثه عقليه بعد مقتله، لم تهتم هي لنظراتهم وكانت أشبه بالفارس المقبل علي ساحة المعركة بشجاعة ورغبه في الانتصار، سارت باتجاه شارع الموسكي تسأل الباعة الذين يفترشون الشارع الضيق ببضاعتهم عن اسم صاحب المحل الذي كان يعمل به زوجها بكير، وقفت تفاحه أمام صاحب المحل وقالت « أنا مش جايه اشحت ياحاج ، انا جايه اشيل بضاعه من المخازن للمحل زي المرحوم جوزي بالظبط، مش حرجع بعيالي الصعيد تاني».
نص من «وسع طريق»
مع بداية كل شهر تخرج « الدكتورة تحية أبو رحاب» من منزلها حامله حقيبة يد قديمة، مرتديه حذاءا رثا يكشف عن أصابع قدميها وملابس شقيقتها التوأم المتوفاة «صفيه» تهذي بكلمات غير مفهومه كعادتها بعد أصابتها بلوثة عقليه نتيجة الإقامة بمفردها في منزلها بعد رحيل ابنها وشقيقتها ، تسير تحيه باتجاه أحد البنوك لتقف في صفوف العملاء لإيمانها بالنظام لصرف معاشها الشهري من حسابها الجاري هناك الذي لا يعلم عن رصيده سوي موظفي الفرع فقط ، والغريب في الأمر أنها تتعامل مع موظفي التيلر بكل جديه وعقل منظم غير مشوش عكس تصرفاتها تماما داخل منزلها أو أثناء تواجدها بشرفتها، الجميع في هذا الشارع الهادئ يتعجب لهدوئها وحسن تعاملها مع الآخرين خارج المنزل، ويتساءلون ..هل تدعي الدكتورة تحيه الجنون؟؟ لماذا إذن تشعل الثقاب وتلقي بها علي المارة في الشارع ؟ ولماذا تتحدث إليهم باللغة العبرية في بعض الأحيان؟ ، هل الدكتورة تحية أبو رحاب يهودية مصريه ؟
نص من امرأة ضد الفوضى
– ممكن سؤال شخصي
– اتفضل
– ليه متجوزتيش مع انك اسمحيلي جميله
– الجواز نصيب وشغلي هو كل حياتي وعايشه لشغلي وبس،
– أنا كمان مفكرتش في الجواز والكتابة هي كل حياتي، الصحافة سرقتني من اني اعيش حياه هاديه ومستقره
– انشاء الله بعد ما اخلص روايتك حقول لك رأي بصراحه
– وانا منتظر ، تصبحي علي خير
أغلقت هاتفها، ملامح وجهها ترقص من السعادة، قلبها يرقص أيضا، وكذلك مشاعرها ، تفاجأت بمكالمته وسري صوته عبر الهاتف إلي شرايينها فدبت الروح فيها بعد غيبوبة سنوات، داعبها النوم أخيرا، احتضنت روايته وراحت في نوم عميق .
تسللت خيوط الشمس عند الصباح من خلف الستارة المغلقة علي النافذة لتوقظها من نومها، فتحت عيناها والتفتت برأسها لأحد بالمكان ، انزلقت الرواية من فوق صدرها «مفرش دانتيل» – رواية للكاتب محسن داوود، نهضت سريعا وسارت باتجاه المرأة، تجاعيد الزمن غزت وجهها، خصلات شعرها زحف إليها الشيب، الوجه الآخر للمرأة يحاورها ويناديها هناء، انزعجت وقالت «مين هناء أنا مش هناء أنا سلوى، اسمي سلوى، هناء بطلة الرواية التي كنت أقرأها أمس، هناء التقت فارسها بعد سنوات انتظار من العنوسة أما أنا فلا، أي فارس هذا سيبحث عن فتاه مثلي ولماذا، الأمير والحصان الأبيض في خيال الكاتب فقط والروايات الرومانسية، لا أمير ولا حصان هنا في منطقتنا الشعبية، أفيقي أنت سلوى، تقفزين إلي الستين، تعيشين في هذا العقار المائل للسقوط بمفردك بعد رحيل الجميع ، أنت سلوى بائعة التوابل وزيوت الشعر في دكان العطارة في الحارة، أنت الأقل حظا وجمالا من فتيات الجيران منذ ولادتك، أنت العانس البلهاء، أنت سلوى» ..وبكت
نص من «مفرش دانتيل»
تحامل محمد صدقي علي عصاه بعد أن اخترقت رصاصات اتهامات حفيده قلبه وغادر غرفة مكتبه للغرفة الأخرى المغلقة وأمر حفيده بالدخول خلفه وأضاء مفتاح النور وأغلق الباب من خلفهما، الغرفة أشبه بمتحف لكلاسيكيات الزمن الماضي، لوحات فنيه رائعة من الصور القديمة لشوارع القاهرة القديمة جزءا من تاريخ مصر، التراب عالق بالمكان، المكتب الشخصي للراحل أحمد صدقي تحفه فنيه بالغرفة.
امتدت يد صدقي لأحد أدراج مكتب والده الراحل وأخرج منه مظروفا أصفر قديم وعاد ليقول أمتي ده مشيرا للمظروف «هذا هو الفرق بين مصور هاو وحفيد محمد صدقي، انظر جيدا الصور، تأملها، أخفيتها عن عائلتي واحتفظت بها لسنوات، مصور هاو مبتدئ تتلمذ علي يدي وعشق الكاميرا من خلالي، الصور لأمك يا عمرو في شبابها، نعم، ابنتي إيمان كانت مريضه بداء السرقة، التقطها مصور من تلاميذي في حفل زفاف ابنة مسؤول كبير وكنت مدعوا لتلك المناسبة، امتدت يد أمك لبعض من الملاعق المصنوعة من الذهب ووضعتها خلسة في حقيبتها دون أن يلاحظها احد، فقط هذا المصور الشريف أثناء تصويره لقطات من الحفل، كان يعلم أنها ابنتي وجاءني الأستوديو حاملا الصور والنيجاتيف واعتذر عن ما حدث ومضي، كان الطريق ممهدا أمامه لابتذاذى والتشهير بي وبسمعة العائلة إلا أن ضميره المهني لم يسمح له بذلك، هي أخلاق المهنة واختلاف الزمن».. من مجموعتها القصصية( أنا هويت) – القمرة.
الكتابة برؤية إنسانية لا تنحاز إلى المؤنث ولا المذكر!
للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا