نون والقلم

سورية بين «انتداب» بوتين وأقاليم العراق الثلاثة

الرئيس باراك أوباما لن يخوض وروسيا «حرباً بالوكالة». لم يتفق ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في لقائهما الأخير على عناوين التسوية السياسية ومصير الرئيس بشار الأسد. لذلك لم يتأخر سيد الكرملين في بدء الحرب التي استعد لها طوال الأشهر الأخيرة. التقى نظيره الأميركي في نيويورك لعله يوفق في إبرام تفاهم. وعندما فشل جمع البرلمان الذي فوض إليه التدخل. وباركه رأس الكنيسة الأرثوذكسية في «الحرب المقدسة». اتفق الزعيمان على التنسيق العسكري فقط لئلا يقع تصادم بين المعسكرين. ولا تشي التصريحات الكثيرة التي حذرت الروس من ضرب مواقع فصائل المعارضة، من «الجيش الحر» و»احرار الشام» وغيرها، بأن أصحابها يعارضون هذا التدخل. ما يريدونه هو توجيه الغارات نحو مواقع «داعش» و»جبهة النصرة». في حين تضع موسكو كل الفصائل الإسلامية في سلة واحدة بلا تمييز.

الرئيس أوباما يفضل «التعاون» مع موسكو. ولا يملك في هذه المرحلة سوى الانتظار لجلاء نتائج المعركة الروسية. لن يتدخل أكثر مما فعل حتى الآن، وإن بدا واضحاً تماماً أن تحالفه الدولي – الإقليمي لاحتواء «داعش» لم يفلح في تحقيق الكثير. وهو منذ بداية الأزمة في سورية لم يعمل جدياً للإنخراط في هذا البلد. ولم يعمل لإسقاط النظام. وحتى عندما سنحت له الفرصة بعد استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة، فضل التعاون مع روسيا التي أراحته من عبء التدخل وتداعياته. ويريد اليوم أن يترك لغريمه فرصة أن يجرب لعله ينجز ما لم يحققه هو في الحرب على الإرهاب. وربما لجأ قريباً إلى إعادة النظر في غاراته على «الدولة الإسلامية» في سورية، بعد تعليق موقت لحملة تحرير الرمادي. علقها لأنه لا يرغب خوض حرب سيحصد الآخرون ثمارها. لا يروقه بالتأكيد أن تكون قوات «الحشد الشعبي»، ومن خلفه إيران، شريكة في أي تقدم في الأنبار لتكسب مزيداً من الأرض. وهو مطمئن إلى رفض الكرد الشراكة مع «الحلف الأمني الاستخباراتي» الناشيء بين روسيا وسورية وإيران والعراق. فهؤلاء يرون إلى أميركا حليفهم الاستراتيجي الدائم. مثلما لا تغيب عن باله مخاوف أهل السنة الذين لن يخرجوا لمقاتلة «داعش» ما لم تضمن حكومة حيدر العبادي تصحيح التعامل معهم، كما وعدت في برنامجها الإصلاحي عشية انطلاق حملة التحالف على هذا التنظيم.

الرئيس الأميركي منسجم مع نفسه ونهجه منذ وصوله إلى البيت الأبيض. لم ينخرط جدياً في كثير من الساحات، من أفغانستان إلى اليمن وليبيا وسورية والعراق. فضلاً عن فلسطين التي لم يأت على ذكرها في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ولم يلوح بالتهديد بعدما ضم الروس القرم وتهديدهم أوكرانيا ودول البلطيق وشرق أووربا. وسيواظب على هذا النهج، ما لم يحصل تطور كبير يحمل تهديداً مباشراً للمصالح الحيوية للولايات المتحدة، مثلما ما حدث مع سلفه الرئيس السابق جورج بوش الإبن الذي تجاهل في مطلع ولايته الأولى دور بلاده في مسيرة التسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وقرر الانعزال. ولكن سرعان ما سقط هذا الانعزال على وقع سقوط برجي التجارة في نيويورك. وأطلق بوش الآلة العسكرية الأميركية في مواجهتين كبيرتين تحت شعار «الحروب الاستباقية». وانطلاقاً من هذا العزوف، لا يضير الرئيس أوباما أن تشمل حملة بوتين بلاد الرافدين… وإلا لما كان حيدر العبادي ليجازف بإغضابه عندما انتقد التحالف الدولي، ورحب بانخراط القوات الروسية في الحرب على «داعش» في بلاده. ولما استعجل البرلمان العراقي منح هذه القوات تفويضاً لشن غارات في العراق. بالطبع لا يزعج أميركا أن تقبض موسكو على الكستناء الساخنة إذا توسع الغضب العربي السني. وربما كان هذا أحد أهدافها لإرهاق روسيا. وقد بدأت أصوات أحزاب وقوى إسلامية تتحدث عن حرب «صليبية» ما دام بطريرك الروس سماها «حرباً مقدسة». وإذا واصلت الطائرات الروسية استهداف كل الفصائل المقاتلة في سورية بلا تمييز فإنها ستدفع هذه عاجلاً أم آجلاً إلى توحيد وجهة البندقية لمواجهة التدخل الجديد الذي وفر للرئيس بوتين الإمساك بالملف السوري إن لم يكن الاستفراد به دون الآخرين، وبينهم إيران أيضاً.

لكن انتظار الرئيس الأميركي قد لا يدوم طويلاً. لا يمكنه أن يترك نظيره الروسي يستفرد وحيداً برسم مستقبل بلاد الشام والشرق الأوسط برمته، وإن حاول فرض أولوياته في الأزمة السورية المستمرة من أربع سنوات ونصف سنة. سيراقب مدى جدية الروس في محاربة «الدولة الإسلامية» قبل تحريك الديبلوماسية بحثاً عن تسوية لأزمة سورية. وقد أعلن صراحة، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن بلاده لا تستطيع حل مشاكل العالم لوحدها. وبدا حريصاً على الدعوة إلى عمل جماعي. لا يريد عزل روسيا بل التعاون معها. وكرر ذلك قبل يومين. جل مبتغاه ان تحل المشاكل هنا وهناك بالوسائل السلمية. وحض موسكو على العمل مع المجتمع الدولي للحفاظ على مصالحها. وبالطبع لا أحد يتوقع أن يمد الفصائل المسلحة بما تحتاج من عتاد لمقارعة الطائرات الروسية وأسلحتها المتقدمة في المعركة… إلا إذا تمرد أحد شركائه في المنطقة على هذه الضوابط الأميركية، ومد المعارضة بما يضبط حركة الطائرات في الأجواء. عندها سيتبدل المشهد مرة أخرى.

سينتظر أوباما مئة يوم، المهلة التي حددها الروس لمهمتهم في بلاد الشام. بعدها سيتضح الجانب الضبابي في خطة الكرملين وعناوين الحل السياسي. لذلك جاء بيان «الإئتلاف الوطني» والفصائل العسكرية في رفض مقترحات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا وخطته لتحريك عمل اللجان الأربع التي اقترحها على طريق تنفيذ بيان جنيف الأول. يكفي الآن أن خصوماً دوليين وإقليميين للرئيس الأسد قدموا ما يمكن تسميته تراجعاً عن شعار خروجه فور بدء المرحلة الانتقالية. قبلوا بفكرة بقائه لفترة انتقالية معينة. ولن يذهبوا أبعد من ذلك في لعبة تقطيع الوقت مع المبعوث الأممي. سينتظرون الآن ما ستقدم عليه موسكو وهل تلاقيهم في منتصف الطريق أم لا. وأياً كان موقفها فإن «إعادة التأهيل» التي يبشر بها بوتين لن تحمل التغيير نحو الديموقراطية، كما ترجو المعارضة. لن يكون التغيير أفضل من الديموقراطية التي ينعم به الروس، أو أفضل من تلك التي جربها ويجربها العراقيون!

بالتأكيد بثت الحملة الروسية موجة ارتياح في أوساط النظام. اطمأنت حاضنته الشعبية، من أهل الساحل وأقليات أخرى. مثلما شدت عصب المؤسسة العسكرية المتهالكة والمفككة. لكن هذا الارتياح لن يبدد مخاوف عميقة تنتاب رأس النظام والمحيطين به. الرئيس بوتين قال أنه يعول على «مرونة الرئيس الأسد وفاعليته في حل الأزمة». وكان «بشّر» قبل أسابيع بأنه مستعد لتقاسم السلطة مع معارضة بناءة. والسؤال الكبير اليوم هل ستواصل آلته العسكرية نهجها في ضرب فصائل المعارضة على الجبهات الساخنة وحدود منطقة الساحل؟ هذه القوى معظمها يلقى دعماً من تركيا وأطراف عربية، ومن أميركا أيضاً. هل يمهد لاستعادة ما خسره النظام وحلفاؤه في الأشهر الأخيرة بذريعة حمايته؟ عليه إذاً أن يستعيد ادلب ومناطق القنيطرة والجولان، والعودة إلى استعادة كل حلب بعد «تنظيف» حمص وحماة. بعد ذلك لا يعود هناك تأثير أو رأي لمعارضة سياسية في الخارج إذا تقطعت أذرعها العسكرية في الداخل. ويسهل تالياً على موسكو أن ترسم الحل على هواها. فإذا استعصى يكون لها الساحل والمدن والعاصمة والمدن الرئيسية ولخصومها «دولة البغدادي» وشركائه.

الرئيس بوتين دعا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تدخل دولي لإعادة هيكلة الدول الفاشلة الغارقة في الحروب الأهلية والفوضى والتفكك. دعوة تعيد المجتمع الدولي إلى نهجه غداة سقوط السلطنة العثمانية، نهج الانتدابين الفرنسي والبريطاني. فهل سيوفق في «انتدابه» على سورية؟ من الصعب أن يحقق تدخله في ثلاثة أشهر ما عجز عنه التحالف الذي يقوده أوباما في الحرب على «داعش». ويخشى أن يكون تقاعس الأميركيين عن استئناف هذه الحرب لتحرير الأنبار مقدمة للعودة إلى مشروع الإقاليم الثلاثة في العراق حلاً وحيداً أعاد تسويقه مسؤولون سياسيون وعسكريون. والسؤال هنا عن مصير الإقليم السني ودور «الدولة الإسلامية» فيه ومصيرها. هل يستطيع الأميركيون تفكيك هذه الدولة واللعب على هذا الخليط العجيب من مكوناتها أم يتركونها في حضن العرب؟ وإذا دخلت المنطقة هذا المنحى فلماذا لا يصح في سورية ما يصح في جارها الشرقي ويترك الروس «داعش» في حضن العرب أيضاً؟

بدّل الكرملين، بلا شك، قواعد اللعبة سياسياً وعسكرياً، لكنه لن يستطيع دفع جميع اللاعبين إلى الرضوخ لشروطه وقبول «انتدابه». خسارة حلب بعد ادلب تعني الكثير لصورة تركيا. وتسوية تعيد تأهيل الأسد لن تقنع أهل السنة العرب، من مصر إلى العراق. لا يمكن هضمها وتسويقها. لا يمكن بوتين أن يتجاهل هذه الحقائق، إذا كان بامكانه الصبر إلى حين على متاعبه الاقتصادية… وإلا غرق في مستنقع أين منه وعورة جبال أفغانستان ومضائقها! من أوائل الصيف ودوائر في موسكو تروج لتحول كبير في الأزمة السورية مع نهاية السنة الحالية وبدء السنة الجديدة. فماذا يخبىء سيد الكرملين في جعبته السياسية بعد العسكرية؟ بالتأكيد يبدي النظام ارتياحه على قلق ومخاوف مكبوتة وكثير من الأسئلة، تماماً كما خصومه القريبون والبعيدون يعبرون عن قلق ومخاوف. هل ينتظر الجميع مئة يوم فيما لا تملك الميادين بمفاجآتها ترف الانتظار و»داعش» يرسخ دولته ويهدد المنطقة كلها؟

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى