كيف نفسّر تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتدمير اقتصاد تركيا وهو الذي أعطى عملياً الضوء الأخضر لها لاجتياح الأراضي السورية المجاورة لحدودها؟!
وكيف نفسّر تصريحات ترامب عن سعيه لسحب القوات الأميركية من منطقة الشرق الأوسط بينما يُعلن مسؤولون في «البنتاغون» أنّ عدد القوات الأميركية قد زاد في هذه المنطقة 14 ألفاً منذ شهر أيار/مايو الماضي؟!
وكيف يمكن فهم التزام ترامب بما نصحت به أجهزة المخابرات الأميركية والمؤسّسة العسكرية من عدم التسرّع بتوقيع اتّفاق مع كوريا الشمالية ومع حركة «طالبان» في أفغانستان، بينما لم يأخذ الرئيس الأميركي بنصائح هذه المرجعيات الأمنية والعسكرية في مسألتيْ الانسحاب من الاتّفاق النووي مع إيران وسحب القوات الأميركية من شمال سوريا؟!
ثمّ كيف تهضم السياسة الخارجية الأميركية هذا التناقض المتواصل بين مواقف ترامب الإيجابية من الرئيس الروسي بوتين، منذ وصول ترامب للرئاسة، بينما يشترك «الديمقراطيون» و«الجمهوريون» في الكونغرس في المواقف السلبية من روسيا ويؤكّدون على ما تضمّنته «إستراتيجية وزارة الدفاع» من تصنيف روسيا والصين كخصمين منافسين للولايات المتّحدة؟
ولماذا يقبل مسؤولون كبار في وزارة الخارجية الأميركية هذا الاستهتار بتاريخ مواقف وزارتهم تجاه القضية الفلسطينية منذ العام 1967 من حيث رفض الاعتراف بضمّ إسرائيل للقدس الشرقية وللجولان السوري وللأراضي الفلسطينية التي تُقام عليها المستوطنات الإسرائيلية؟!. فلم يجرؤ أي رئيس أميركي (ديمقراطي أو جمهوري) على فعل ما قام به ترامب من تبنٍّ كامل للسياسة الإسرائيلية التي يقودها نتنياهو ضدّ الشعب الفلسطيني بأسره!.
لقد «نجح» ترامب حتّى الآن في تفكيك عزلة بعض خصوم أميركا (كوريا الشمالية وحركة طالبان) وحاول أيضاً إعادة روسيا لمجموعة الدول الصناعية وإنهاء بعض العقوبات ضدّها، بينما ساهم في عزل الولايات المتحدة في عدّة قضايا دولية (اتّفاقية المناخ – الاتّفاق النووي مع إيران- القضية الفلسطينية) وتسبّب في أزمات سياسية وتجارية مع حلفاء أميركا الأوروبيين وكندا والمكسيك!. وبالمحصّلة لم تكسب أميركا-ترامب ودّ خصومها وخسرت الكثير من تضامن حلفائها!.
ولم يعد العالم اليوم يعرف ما هي فعلاً السياسة الخارجية الأميركية، وعلى أي أرضٍ تقف إستراتجيتها، ومن هي المرجعية الأميركية الصالحة لتحديد السياسات المتعلّقة في شؤون الحرب والسلام والمفاوضات. وأصبح العديد من الوزارات والوكالات الأميركية يُدار من أشخاص مُعيّنين من ترامب بالوكالة، لا بالأصالة، تجنّباً للمواجهات مع لجان الكونغرس، وتسهيلاً لتنفيذ قرارات وسياسات يريدها ترامب من دون خلافٍ معه، كما حصل مع وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون ووزير الدفاع السابق جيمس ماتيس ووزير العدل السابق جيف سيشنز.
ولقد أدّت الحرب التجارية لترامب مع الصين إلى أضرار كثيرة للولايات المتحدة وللصين وللعالم ككل، وهي في حال استمرارها ستدفع إلى أزماتٍ اقتصادية عالمية وستؤثّر كثيراً على المصير السياسي لترامب نفسه، حيث تضرّرت عدّة ولايات أميركية تعتمد على صادراتها للصين في منتوجاتها الزراعية والحيوانية، إضافةً إلى ارتفاع أسعار الكثير ممّا يستهلكه الأميركيون من مصنوعاتٍ صينية.
إنّ الإستراتيجية الأمنية الأميركية التي جرى نشرها في ديسمبر 2017 كانت سلبيةً جداً تجاه روسيا والصين. وكانت القوى الاقتصادية والعسكرية والأمنية التي تقف خلف هذه الإستراتيجية هي أيضاً التي كانت وراء ما شهدناه في فترة حكم أوباما من سعي لتركيز الاهتمام الأميركي على منطقة شرق آسيا، حيث تجاوبت إدارة أوباما إلى حدٍّ ما مع ضغوطات هذه القوى دون الوصول إلى مرحلة القطيعة مع الصين أو روسيا أو اعتبارهما الخصم الأول لأميركا.
فالعالم اليوم ليس كما كان في حقبة الحرب الباردة بين معسكر شيوعي وآخر رأسمالي. عالم اليوم يقوم على المنافسة بين قوى كبرى قد تختلف أو تتّفق تبعاً لمصالح اقتصادية أولاً وبما يضمن تفوّق هذا الطرف أو ذاك تكنولوجياً وعسكرياً. فليست مشكلة موسكو فقط مع مؤسّسات أميركية فاعلة الآن في إدارة ترامب، أو مع سلفه أوباما، بل إنّ جذور المشاكل تعود لفترة إدارة بوش الابن، حيث وقف الرئيس بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن في العام 2007 محتجّاً على السياسة الأميركية التي كانت سائدة آنذاك. فأولويات روسيا كانت هي أمنها الداخلي، وأمن حدودها المباشرة في أوروبا، وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً. وموسكو أدركت أنّ الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي، وفي أفغانستان وفي العراق وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابّة تطويق شامل للأمن الروسي، يتكامل مع تمدّد حلف «الناتو» في أوروبا الشرقية ومع نشر منظومة الدرع الصاروخي. وهذه كانت سياسة الدولة الأميركية، ولم تكن فقط سياسة حاكمٍ في «البيت الأبيض»!.
إنّ فرنسا وألمانيا، وهما أساس الاتّحاد الأوروبي، ترفضان سعي ترامب لإضعاف الاتّحاد، والذي كانت بوادره بدعم ترامب لخروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي، ثمّ إصرار الرئيس الأميركي على التعامل الثنائي مع الدول الأوروبية وعقد اتفاقاتٍ خاصّة مع كل دولة وليس في إطار منظمّة أوروبية مشتركة. كذلك كان الأمر مع جوار الولايات المتحدة حيث أسقط ترامب اتفاقية «نافتا» التي كانت تجمع بين دول أميركا الشمالية، وحيث التهجّم العلني من ترامب على المكسيك بسبب عدم مساهمتها في إقامة الجدار على الحدود معها.
أفلا يلفت الانتباه ما يقوم به ترامب من سياسة تسيء لعلاقات واشنطن مع حلفاء لها بينما هو يسعى للتقارب مع خصومها كحالة كوريا الشمالية، والتي هدّد زعيمها في السابق بتدمير الولايات المتحدة وباستخدام السلاح النووي ضدّها؟!.
إنّ إدارة ترامب هي حالة شبيهة بما حدث في إدارة جورج بوش الابن من عزلة أميركية نتيجة لمحاولة تغيير ما كان قائماً من نظام عالمي فرض نفسه بعد سقوط الاتّحاد السوفييتي، لكن لدوافع وأهداف مختلفة. فترامب تحدّث عن «أميركا أوّلاً» بينما ما يمارسه من سياسية خارجية أدّت وتؤدّي إلى عزلة الولايات المتّحدة دولياً حتّى مع حلفاء تاريخيين لأميركا. وهناك أضرار تتحصّل الآن على المصالح الأميركية من جرّاء هذه السياسة «الترامبية» التي لا تأبه إلّا لتعهّدات ترامب في حملته الانتخابية، ووفق معايير شخصية محضة، ومراعاةً فقط لمصالح فئوية ترتبط بالرئيس نفسه وبعائلته وبقاعدته الشعبية التي تُهيمن عليها جماعات عنصرية وصهيونية متطرّفة، إضافةً طبعاً لحرص ترامب على خدمة جماعات الضغط (اللوبي) المرتبطة بمصانع الأسلحة والشركات الكبرى التي وقفت معه.
إنّ شعار «أميركا أولاً» الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية، وكرّره ي أكثر من مناسبة، هو نقيض الواقع والممارسة العملية لسياسة إدارته، حتّى في المجتمع الأميركي نفسه. فشعار «أميركا أوّلاً» يتطلّب على المستوى الداخلي رئيساً يحرص على التعدّد الإثني والعرقي في المجتمع الأميركي، وترامب صرّح وتصرّف عكس ذلك مع الأميركيين الأفارقة والمسلمين والمهاجرين اللاتينيين. والمصلحة القومية الأميركية تفترض وجود رئيس في «البيت الأبيض» يعمل لصالح الفئات الفقيرة والمتوسّطة من الأميركيين، وترامب خدم ويخدم الفئة القليلة من الأثرياء في الكثير من مراسيمه الرئاسية وبعض قوانين الكونغرس، وما يتّصل بها من مسائل الصحّة والهجرة والضرائب والضمانات الاجتماعية. الحال هو نفسه على مستوى السياسة الخارجية الأميركية، حيث أخرج ترامب الولايات المتحدة من اتّفاقيات دولية وهدّد بالخروج من المزيد منها، وهي اتّفاقيات كانت تحقّق المصالح القومية الأميركية. فأين نتائج «أميركا أولاً» في ظلّ تزايد مشاعر الغضب والسخرية لدى شعوب دول العالم تجاه السياسة الأميركية الحالية ورمزها في «البيت الأبيض»؟!.
مدير مركز الحوار العربي في واشنطن
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا