البرلمان هو السلطة التشريعية المنوط به إصدار التشريعات والقوانين، أو إلغاؤها وتعديلها، والتصديق على الاتفاقيات الدولية ومراقبة السلطة التنفيذية وتغييرها وقت الاقتضاء أو تشكيلها بحسب دستور كل دولة إذا كان رئاسياً أو برلمانياً.. وفي جميع الأحوال فإن البرلمان هو ممثل الشعب وله مسميات مختلفة حسب كل دولة مثل مجلس النواب أو المجلس التشريعي أو مجلس الشعب أو مجلس الأمة أو الجمعية التشريعية أو الجمعية الوطنية، ويختلف من دولة إلى أخرى بغرفة أو غرفتين.
ومصر عرفت الحياة النيابية في تاريخها المعاصر في عهد محمد على فيما سمى بالمجلس العالي، ثم مجلس المشورة.. إلا أن عام 1866 كان البداية الحقيقية للحياة النيابية في مصر عندما أنشأ الخديوي إسماعيل مجلس شورى النواب، وتم وضع لائحته التأسيسية ونظامه على غرار المجالس النيابية في أوروبا.. وتم تشكيل هذا المجلس من 75 عضواً منتخباً من قبل الأعيان والعمد والمشايخ، ومع تطور الحياة النيابية في مصر ووجود معارضة وصحافة أعيد تشكيل المجلس في 1879 من 120 عضواً ممثلين عن مصر والسودان، وكان من صلاحيات هذا المجلس مساءلة الوزراء ومراقبة الشئون المالية.
ولأن البرلمان هو الممثل الحقيقي للشعب، والمعبر عن آماله وطموحاته، وأيضاً عن آلامه ومشاكله في مواجهة كل السلطات، أصبحت البرلمانات هي ملاذ الشعوب باعتبارها حائط الصد الأول عنه في تغول السلطة التنفيذية أو تقصيرها في أداء مهامها.. وإذا فقد البرلمان ثقة الشعب تصبح المواجهة مباشرة بين الشعب والسلطة التنفيذية، كما حدث عقب انتخاب مجلس الشعب عام 2010 عندما أيقن الشعب المصري أن إرادته ثم تزييفها، وأن هذا المجلس لا يعبر عن إرادته وتم تشكيله بإرادة السلطة التنفيذية، وطبقاً لتوجيهات الحزب الحاكم الذي كان يمثل الوجه الآخر للسلطة، وتحولت عضوية البرلمان إلى واجهة اجتماعية وغطاء للتربح المالي والاحتكار، وترسخت قناعات بأن هناك احتكاراً للسلطة والثروة، وكان تشكيل هذا المجلس سبباً في اندلاع ثورة 25 يناير وسقوط النظام المصري.. ولولا وجود جيش وطني على أعلى درجات اليقظة والاستعداد بكل ما يحمله من ثوابت وطنية راسخة لانهارت الدولة المصرية، ومع بذله جهوداً مضنية في الحفاظ على الوطن، إلا أننا مازلنا نعانى اقتصادياً من حالة الفوضى التي ضربت البلاد مدة ثلاث سنوات وهروب كثير من الاستثمارات وغياب السياحة بعد اختطاف الجماعة الإرهابية للسلطة في مصر، ومازلنا نواجه إرهابها حتى الآن.
أمس الأول عاد مجلس النواب للانعقاد في دوره الأخير، وجاءت الجلسة الافتتاحية معبرة عن توجه جديد للمجلس بعد أن استشعر الخطر الذي تمر به مصر، وأعلن دعمه للرئيس عبد الفتاح السيسي والجيش والشرطة في مواجهة الإرهاب والقضاء على فلوله.. وكشر المجلس لأول مرة عن أنيابه في مواجهة الحكومة، وانتقد النواب الحكومة بشدة، وطالب الوزراء والمحافظين بترك مكاتبهم والنزول للشارع للاستماع إلى المواطنين وحل مشاكلهم، وقال الدكتور على عبد العال، رئيس المجلس، إنه سيتم تفعيل الدور الرقابي للمجلس على السلطة التنفيذية، وأن هناك وقفة شديدة مع الحكومة ولن نترك هذا الشعب ومشاكله ومصالحه للمسئولين التنفيذيين وتصدير المشاكل إلى رئيس الجمهورية، مشيراً إلى أن التاريخ لن يرحم هذا لمجلس إذا ترك التنفيذيين بهذه الصورة.
إذن عودة مجلس النواب لدوره الرقابي هي عودة للأصل، ولعل الكلمات التي جاءت في أول جلسة تكشف عن عودة حقيقية لمجلس النواب في ممارسة مهامه والتعبير عن قضايا ومشاكل المواطن المصري الذي التف حول الرئيس عبد الفتاح السيسى بشكل غير مسبوق بهدف حماية الدولة الوطنية.. ولكنه في المقابل لم يجد من يتبنى مشاكله اليومية والمعيشية بعد أن غاب مجلس النواب، وأغلقت منافذ إعلامية كانت تنقل مشاكله إلى الجهات التنفيذية وهو ما سمعناه لأول مرة أمس الأول في قاعة المجلس.. ليس هذا فحسب، بل إن البعض أثنى على المعارضة الوطنية التي فجرت بعض القضايا بهدف الإصلاح والمزيد من الجهد والعمل للحفاظ على هذا الوطن في مواجهة كل الأخطار والمخططات الخارجية.
باختصار.. عودة مجلس النواب للمكاشفة والمصارحة ومواجهة أخطاء السلطة التنفيذية، ووجود معارضة فعالة وبناءة ووطنية هي أكبر ضمانة لهذا الوطن واستقراره.. ومن وجهة نظري فإن المعارضة الوطنية التي تواجه الفساد والانحراف والروتين والبيروقراطية وتطرح الحلول بهدف الحفاظ على التماسك الاجتماعي واللحمة الوطنية وحماية الوطن في مواجهة كل الأخطار الخارجية هي ظاهرة صحية وأكثر فائدة للدولة والنظام معاً من تجار الوطنية الذين يحملون عدداً من الشعارات الرنانة في حناجرهم فقط، يتنقلون بها أمام الميكروفونات أينما وجدت بالقاعات ووسائل الإعلام والسوشيال ميديا، ولا تجد آذناً صاغية، وربما تكون نتائجها عكسية؛ لأن الجميع يعي أن هؤلاء حناجرة كل نظام.