لم يخف ضيقه البالغ من الوضع الذي هو فيه. رهاناته السياسية على تسوية ما مع «إسرائيل» وصلت إلى طريق مسدود لا أفق بعده. وأزماته مع «حماس» انفجرت على خلفية رؤية كل طرف لأسباب ونتائج العدوان «الإسرائيلي» على غزة عام ٢٠١٤.
تحدث رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس طويلاً أمام مجموعة ضيقة من الصحفيين والإعلاميين التقوه في قصر الأندلس في ضاحية مصر الجديدة عن معاناته كرئيس لسلطة بلا سلطة، وممثل لقضية يتناحر أصحابها.
كان عائداً لتوه من لقاء مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولم تكن لديه إجابة عن احتمالات المستقبل والسياسة التي سوف يتبعها في ظل الأوضاع التي يشتكي منها.
سأله الأستاذ مكرم محمد أحمد، وفي لهجته نقد صريح لارتفاع منسوب الضجر بغير رؤية للمستقبل: «قل لنا ما الذي سوف تفعله وأنت المسؤول الأول في السلطة الفلسطينية؟ وأي مواقف عملية سوف تتخذها أمام هذه الأوضاع؟».
استدار نحوي أبو مازن: «قل لي ماذا أفعل؟».
أجبته: «حل السلطة الفلسطينية».
لاحت على وجهه ابتسامة، وطلب من أحد مرافقيه أن يشعل له سيجارة، فهو لا يضعها أمامه حتى لا يفرط في التدخين، حسب أوامر الأطباء.
قال: «قد يفاجئك أني أفكر جدياً في هذا الخيار». غير أنه أردف: «ليس الآن».
في اجتماع تالٍ مماثل بالمكان نفسه صاغ أبو مازن أفكاره على نحو أكثر حسماً: «ليس أمامنا خيار آخر».
لم تكن هناك مفاجأة أن يعلن من فوق منصة الأمم المتحدة عدم الالتزام ب«اتفاقيات أوسلو» لعدم التزام «إسرائيل» بها.
الفكرة شغلته طويلاً، وأفكاره تحدثت بها علناً في أكثر من مكان، غير أنه عند التنفيذ تصرف على نحو أكثر حذراً.
لم يلق القفاز في وجه «إسرائيل» بقدر ما لوح بأنه قد يفعل ذلك. لم يعلن انسحاباً كاملاً من «أوسلو» ولا لوح بحل للسلطة الفلسطينية.
التحلل من «أوسلو» يعني بالضبط حل السلطة وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال.
ما قاله بالضبط نصف انسحاب، عدم التزام فلسطيني مقابل عدم التزام «إسرائيلي».. هذه الخطوة أقل من أن تكون راديكالية، لكنها ليست هينة.
وفق حسابات أبو مازن أمام «إسرائيل» أحد خيارين.
الأول: الإقرار بأن «السلطة الفلسطينية ناقلة لشعبها من الاحتلال إلى الاستقلال».
وهذا خيار شبه مستبعد، فما الذي يدعو حكومة «بنيامين نتنياهو» اليمينية المتشددة إلى أي تنازلات في ظل الأحوال العربية والفلسطينية الحالية؟
لا العالم العربي بوسعه أن يضغط، ولا الفلسطينيون مؤهلون للوحدة الوطنية بأي وقت منظور.
الاقتحام المنهجي للمسجد الأقصى- بدعم من قوات الأمن «الإسرائيلية»- تعبير مباشر عن الاستهتار البالغ بأي ردود فعل محتملة.
هذه مأساة حقيقية لا يمكن إنكارها.
والثاني: «أن تتحمل «إسرائيل» مسؤولياتها كدولة احتلال». وهذا خيار أكثر واقعية.
إعادة توصيف القضية الفلسطينية بلا رتوش «أوسلو» تعني الاعتراف بالحقيقة من دون خداع للنفس.
الفلسطينيون تحت الاحتلال ويتعرضون لتنكيل يومي تحت ظل علم مرفوع فوق البنايات.
رئيس السلطة لا يملك أن يغادر رام الله إلا بإذن مسبق من السلطات «الإسرائيلية» وتأشيرة على جواز سفره، كما يشتكي علناً ويراه مذلاً.
التوسع الاستيطاني يأخذ مداه والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين تتعطل التزاماته كأنها لم تحدث.
وفق «أوسلو» التسوية كان ينبغي أن تستكمل بعد خمس سنوات من توقيعها في عام (١٩٩٣). غير أن ذلك لم يحدث ومرت 22 سنة إضافية.
بتعبير أبو مازن من فوق منصة الأمم المتحدة «الوضع القائم لا يمكن استمراره» وهذا صحيح، غير أن الأصح أن اللعبة انتهت وأنصاف الانسحابات ليست بديلاً.
بأي كلام واقعي، وبغض النظر عن أي مواقف من «أوسلو»، فإنها ماتت إكلينيكياً ويتبقى دفنها.. لم تكن هذه النتيجة مفاجأة، فالنهايات تبدت في المقدمات.
سألت المفكر الفلسطيني الراحل الدكتور إدوارد سعيد قبل عشرين سنة: «إذا لم تكن سلطة الحكم الذاتي مرشحة للتحول إلى دولة كما تقول وتتوقع.. فما مصير ومستقبل هذه السلطة؟». قال بما نصه: «إذا أمعنت في قراءة أوسلو فسوف تجده يقول إن من حق القوات «الإسرائيلية» أن تدخل أراضي الحكم الذاتي لو اعتقدت أو استشعرت أن مصالحها مهددة، وهو نص يكفل ل«إسرائيل» من الناحية الواقعية فرض سلطة الاحتلال المباشرة في أي وقت تريد، وممارسة حق القتل عندما تقرر ذلك».. أضاف «أعتقد أن ما يحدث فعلياً الآن من حكم ذاتي هو نوع من التعاون بين القوات «الإسرائيلية» وقوات الشرطة الفلسطينية يكرس سلطة الاحتلال ولا يؤدي إلى دولة.. وبوضوح أكثر أقول سلطة الحكم الذاتي أداة للاحتلال، وهذا هو مصيرها». كان قاطعاً في أحكامه، فالذين يتحدثون باسم «أوسلو» أمام وسائل الإعلام الأمريكية يقولون إنهم «في مسيرة منتصرة نحو الدولة المستقلة»، بينما كل الدلائل تشير إلى العكس تماماً.
في هذا الحوار المثير اتهم «سعيد» «أبو مازن» بمغالطات فادحة تزيف الحقائق كقوله: «إن هذه أول مرة في تاريخ الفلسطينيين يحكمون أنفسهم».
كانا على طرفي نقيض في الموقف من «أوسلو».
أولهما، الصوت الفلسطيني الأبرز في نقدها.
وثانيهما، عرابها الأكثر رهاناً عليها.
بعد عشرين سنة يستعير العراب بعض عبارات المفكر.
الحقائق وحدها تملي كلمتها في النهاية.
أمام مفترق طرق آخر إلى أين يمضي نصف الانسحاب من «أوسلو»؟
هل نحن أمام احتمال لترتيب البيت الفلسطيني من جديد وتبني سياسات تليق بأنبل القضايا الإنسانية في القرن العشرين؟ الإجابة ليست سهلة لكنها ضرورية.
بالنسبة للفلسطينيين فهذه مسألة حياة أو موت، أن تكون هناك فرصة لإنقاذ قضيتهم من قبضة اليأس أو لا تكون ويضيع ما تبقي من حقوق إلى الأبد.
بالنسبة ل«الإسرائيليين» فهذا تحدٍ جوهري لمجمل استراتيجيتها. فالإعلان الفلسطيني بعدم الالتزام باتفاقيات «أوسلو» يعني وقف التنسيق الأمني وإلغاء الدور الوظيفي للسلطة نفسها.
«الإسرائيليون» الذين أدمنوا «الخطوات الأحادية» وصفوا الخطوة الفلسطينية الأخيرة بأنها «أحادية» تستلزم بالمقابل التضييق الأمني ووقف تحويل الأموال واتخاذ إجراءات تمنع تحرك مسؤولي السلطة بحرية.
التهديد بذاته لا يعني كثيراً، فهناك مشاكل دائمة في التحويلات والانتقالات وإهانات بلا حد لمسؤولي السلطة الفلسطينية.
السيناريو الأرجح لحين إشعار آخر أن تبقى المعادلة على ما هي عليه، ضغوط متبادلة بلا تعديل جوهري على قواعد اللعبة.
بمعنى آخر شيء من التعايش بين سلطة مغلوبة على أمرها وقوات احتلال تكشر عن أنيابها. والسيناريو الآخر- الذي لا يمكن استبعاده – أن تفضي الضغوطات إلى حل السلطة فتأخذ الأزمة مداها على المستويين الإقليمي والدولي وترد الاعتبار للقضية الفلسطينية.
أزمة كبرى.. لا نصف أزمة وانسحاب مدوٍ لا نصف انسحاب.
33 4 دقائق