لم يعد الفلسطينيون يعتقدون أن لهذا الانقسام اللعين من نهاية، وأن صفحته السوداء الكئيبة ستطوى، وأن مخازيه ستوارى، وأحزانه وآلامه ستنسى، ومآسيه وجراحه ستداوى، وأنهم يوماً ما سيستعيدون وحدتهم المنشودة في الأرض والوطن والشتات، وسيتفقون في السياسة والسلطة، وفي الحكومة والمقاومة، وسيستيقظون على أنباء المصالحة وصور الفرحة والمصافحة، وأفواج المهنئين وأهازيج المبتهجين، لتعود إليهم صورتهم البهية، وألقهم الرائع، وتميزهم الوطني الجميل، الذي تمتعوا به طويلاً، وعملوا في ظلاله كثيراً، ورسموا بألوانهم الحزبية ومقاومتهم العسكرية ونضالهم الدائم أجمل اللوحات الفلسطينية، وتركوا لشعبهم وأمتهم أروع الصور وأحلى الحكايات عنهم، إلا أن الانقسام البغيض سمم حياتهم، ودمر مستقبلهم، وقضى على أحلامهم، وشوه صورتهم، وأضر بقضيتهم، ومكن العدو منهم.
اثنا عشر عاماً مضت على الانقسام الفلسطيني، وما زال الفرقاء الفلسطينيون في أماكنهم يراوحون، وبشروطهم يتمسكون، وبمواقفهم يتشددون، وكأنهم لا يعرفون قدر القضية التي يحملون، ولا مكانتها بين الأمم والشعوب، ولا يدركون حجم ما قدمه شعبهم والأمة من تضحياتٍ في سبيلها، وما بذلوا من دماء وحرياتٍ من أجلها، أو كأنهم لا يشعرون بما يدور حولهم، ولا بما يحاك ضدهم، ولا ينتبهون للمؤامرات الدولية والصفقات الأمريكية، ويعتقدون أن الزمن سينتظرهم والوقت سيسعفهم، وأن العدو لن ينتهز ضعفهم ولن يبتز صفهم، وسيقف أمام خلافاتهم صامتاً لا يتحرك، وجامداً لا يعمل، ولن يعجل في مشاريعه، ولن يضاعف مخططاته، وسينتظر صحوة القيادة الفلسطينية ليشاورها ويأخذ رأيها فيما ينفذ.
يأس الفلسطينيون من كل المحاولات، وفقدوا الأمل في كل الوسطاء، وحاروا بين المبادرات والإعلانات، وملت العواصم من استقبالهم ويئست من اتفاقهم، فباتت القاهرة ودكا، ومكة والدوحة، والصخيرات وغزة، وموسكو وأنقرة، وكأنها عواصم جدباء وأراضٍ قفراء، لا ينبت فيها الخير، ولا يولد فيها السلام، ولا تنجح فيها الجهود، ولا تصفو فيها الضمائر والقلوب، رغم أننا لا نشكك في نوايا الوسطاء، ولا نتهم الرعاة والمستضيفين، إذ نعلم أن العيب فينا، وأن العور المبين هو منا، وأن المتحاورين جاؤوا بنية الاختلاف وعدم الاتفاق، استجابةً لضغوط من يحركهم، أو أوامر من يوجههم.
وحتى السجون والمعتقلات التي غصت بأعظم رجالات فلسطين وأماجد نسائها، الذين ضحوا بحريتهم وفقدوا مستقبلهم في أسرهم وعائلاتهم، فقد باءت مبادرتهم الوطنية بالفشل، وضرب بها «الأحرار» عرض الحائط، ولم يعيروها اهتماماً ولم يقدروها حق تقديرها، وهي التي انطلقت من قلب الصدق، ومن حقيقة الإخلاص، وامتزجت بنودها بآهات الأسرى والمعتقلين وأنينهم، وصيغت كلماتها بمعاناتهم وأوجاعهم، وكتبت في عتمة الزنازين ومن خلف القضبان، حتى جاءت معبرة عن الكل الفلسطيني الصادق الوطني الغيور، ورغم ذلك فقد فشلت في أن ترقى لأن تكون هي سلم النجاة وحبل الوصل، لا لعيبٍ أو قصورٍ فيها، بل لحزبيةٍ مقيتةٍ في أطراف الأزمة وأنصارهم.
لا يستطيع أحدٌ أن ينكر الاختلافات الجذرية بين الفصائل الفلسطينية، وتحديداً بين حركتي فتح وحماس، وهما قطبا الأزمة ورحى الصراع، فهناك تباينٌ في البرامج السياسية، واختلاف في الرؤى النضالية، وممارساتٌ على الأرض غير مقبولة، ومهادنة للعدو مرفوضة، ومناكفاتٌ سياسية وأمنية مقصودة، وعقوباتٌ جماعية وأخرى حزبية، ولعل هذه الاختلافات مقبولة بين القوى، ومبررة بين الفصائل المتنافسة، ولكن الشعب هو من يدفع الثمن، ويُحاصرُ ويُحرم، ويُهان ويُوجع، ويُعاقب ويُفصل، ويُسجن ويُعذب، وكأنه مكسر العصا ومحل التنفيس عن الغضب والاحتقان، لكن أحداً لا يصغي إلى هذا الشعب الغلبان، ولا يهب لنجدته ولا يسرع لمساعدته، رغم أنه الذي يحافظ على هوية الوطن ويحمي صبغته العربية، ويبقي على القضية ويحفظ مصير الوطن، كما أنه حاضنة المقاومة وحصن المقاومين، يحميها ويقاتل معها ويدافع عن رجالها.
شروط المصالحة الوطنية ليست صعبة ولا مستحيلة، بل هي ممكنة وسهلة، ويمكن الوصول إليها بسهولة، شرط الصدق والجدية، والنزاهة والاستقلالية، والبعد عن التأثيرات الخارجية والضغوط الدولية، والالتزام بكل ما يفيد شعبنا وينفعه، ويبعد الضرر عنه ويحميه، والتمسك بكل ما يحفظ حقوقه ويصون حياته، والتصدي لكل من يعتدي عليه ويحاول المساس به، والتفرغ التام لحماية الأرض وصيانة المقدسات، والعمل على تحرير الأسرى واستنقاذ حياتهم من سياسة الذل والهوان التي يتعرضون لها.
لا تستغربوا أبداً عدم اهتمام الفلسطينيين في الوطن والشتات بمبادرة الفصائل الثمانية، وعدم انشغالهم بها أو أملهم فيها، رغم صدق وغيرة أصحابها، ذلك أنهم أعلم بقيادتهم وأدرى بمن يمثلهم، فقد اعتادوا على انقلابهم، ووطنوا أنفسهم على سرعة اختلافهم، فهم يرحبون بالمبادرات، ويعلنون فتح صدورهم لكل الحوارات، ولكن صدروهم تضيق بسرعة، وألسنتهم تنطلق ذلقة، وإعلامهم يصدح ناقداً فاضحاً، يعلنون جميعاً موت المبادرة وانتهاء أمل المصالحة، ويحملون بعضهم البعض المسؤولية عن الفشل، ويتهمون بعضهم بالنكول والنكوص والنكث وعدم الالتزام، دون مراعاةٍ لحالة الناس وتعب الشعب، وضيق الحصار وشدة المعاناة.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا