للوهلة الأولى تبدو التهديدات المتواصلة التي أطلقها رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، بشنّ هجوم واسع على مناطق الكرد شرق الفرات، بأنها جدّية يُراد منها القضاء على الإرهاب الذي يتهدّد الأمن القومي التركي، بحسب التوصيفات التركية، بيد أنّ أردوغان وتطلعاته الجيو – إستراتيجية تجاه شرق سورية، تجعل منه ظاهرة صوتية تطلق التهديدات الفارغة من المضمون والأهداف.
حيث أنّ جلّ تهديداته تأتي في إطار البحث عن أوراق ضغطٍ سياسية، بغية صرفها في حساباته الداخلية والإقليمية، خاصة أنّ واشنطن وعبر سياساتها المتناقضة في عديد الملفات المتعلقة بدعم الكرد من جهة، والعمل على احتواء الهواجس التركية من جهة أخرى، لم تتأخر بإرسال إشارات تحذيرية لـ أردوغان، تمّت ترجمتها سياسياً بتصريحات تفيد باستمرار دعم الكرد وحمايتهم، وعسكرياً بإرسال تعزيزات ضخمة جداً لهم.
ضمن هذه الصورة التي صاغتها واشنطن، وعطفاً على تبنّي الهواجس التركية وضرورة احتوائها، أسهمت تلك المعطيات في قبول تركيا الصيغة المبدئية لما اتفق عليه أن يكون منطقة آمنة، لكن جوهر الاتفاق الأمريكي التركي بقي ضمن هوامش لا يمكن التنبّؤ بسيناريواتها المستقبلية، ليكون ظاهر هذا الاتفاق تجميد أو وقف التوجهات التركية لشنّ عملية عسكرية في مناطق الكرد شمال سورية، وعليه فإنّ جزئيات الاتفاق تضمّنت عبارات لجهة إنشاء المنطقة في أقرب وقت، وذلك عبر صيغة تشاركية تجمع واشنطن وأنقرة، وهذا يشير صراحة إلى تناقضات في مضمون الاتفاق، فالمطالب التركية تصرّ على أن تكون وحيدة دون مشاركة أيّ طرف في إنشاء وإدارة المنطقة الآمنة، إضافة إلى تحديد الهدف من المنطقة الآمنة، وهو أن تكون «ممرّ سلام بحسب التصريحات التركية» لعودة السوريين إلى بلادهم، فيما كانت تركيا تتطلع لتكون المنطقة الآمنة، مكان إقامة دائمة للسوريين المطرودين من تركيا، لتحقيق أهدافها البعيدة في التغيير الديموغرافي، حيث تصبح مناطق شمال شرق سورية ذات أغلبية عربية، لا كردية، في مقابل ذلك تصرّ واشنطن التشاركية في إقامة مركز العمليات «الأميركي – التركي»، وهذا يأتي خلافاً للمطالب التركية.
ضمن ما سبق من معطيات، يبدو واضحاً حجم المراهنات في سياق التطورات المتسارعة شمال شرق سورية، كما يبدو واضحاً أنّ الورقة الكردية تحتلّ هرم العلاقة الأمريكية التركية، فما بين دعم أمريكي للكرد وتوظيفهم لهذه الأداة سياسياً وعسكرياً، وما بين هواجس تركيا وخططها تجاه سورية، تكمن العديد من طلاسم الصراع في شمال شرق سورية، فلا تكاد تطوى ورقة في كتاب يوميات الحرب على سورية، حتى تفتح صفحة جديدة غايتها الجوهرية قطع الطريق على منجزات الدولة السورية، وإبطال مفاعيل ما تمّ تحقيقه سورية وروسياً وإيرانيا ضمن معادلات التحالف السياسي والعسكري، وهذا يبرهن في محتواه حجم الملفات المترابطة والمعقدة على طول الخارطة الإقليمية، ورغم أن ملامح الكثير من مناطق الجغرافية السورية قد باتت في مشهدية واضحة لجهة فرض سيطرة الدولة السورية عليها، إلا أنّ بعض بؤر التوتر لا تزال تشهد تعقيدات تؤرق كافة الفاعلين والمؤثرين في الشأن السوري، وهذا بدوره ينعكس توترات وتحديات متزايدة، وجلّ هذا مرتبط بالموقع السوري المؤثر في خارطة التوازنات الإقليمية والدولية.
كثافة الاستثمار التركي في ملفي إدلب وشرق الفرات، إضافة إلى استثمار ذرائع الأمن القومي المرتبط بالتهديدات الكردية، جعل من تركيا رأس حربة في شمال شرق سورية، فالتحركات التركية وآليات تفاعلاتها السياسية والعسكرية، وضع أنقرة ضمن الأطراف الرئيسية والفاعلة في سورية، حتى بدت تركيا قائدة للخطط الأميركية والغربية والخليجية الرامية للإطاحة بالدولة السورية، واعتقدت تركيا بناء على ذلك، أنها قادرة على فرض التغيّرات في المنطقة وفق نظامها الإخواني، لكن وفي ضوء ما تمّ إنجازه سورية، وانتصار الأسد سياسياً وعسكرياً، غيّرت تركيا من مواقفها تجاه جزئيات الحرب على سورية، وتوقفت عن تحدّي دمشق، وحجزت لنفسها مقعداً في صفوف أستانا، ورغم كلّ المناورات التركية الرامية للقبض على المفتاح الذهبي شمال شرق سورية، إلا أنّ اصطدامها بآلية العمل السورية الروسية أفقدها مرات عديدة توازنها في التعاطي مع المستجدات التي فرضها الجيش السوري، لتعود مجدداً وتبحث عن مصالحها مع روسيا، واستطاع بوتين تجاوز العديد من نقاط الاختلاف، لصالح تقاربهما كطرفين مؤثرين في أوضاع سورية، بيد أنّ الرومانسية السياسية لم تفلح باحتواء أردوغان، وكان لا بدّ من تأديبه عسكرياً، عبر فرض جوهر الاتفاق الروسي التركي في سوتشي بالنار، هذه الجزئية لم ترق لواشنطن وبدأت بالتلويح بالورقة الكردية بغية جذب تركيا إلى المنظومة الأمريكية، وبات من الواضح أنّ التوجهات الأميركية لجهة التلويح بالجوكر الكردي، يأتي ضمن معطيين:
– الأول الضغط على تركيا لفرض الرؤية الأميركية في ملفي إدلب وشرق الفرات.
– الثاني الضغط على روسيا، حيث أنّ الجوكر الكردي كفيل بهذه لمهمة عبر فرض تجاذبات وتعقيدات، الغاية الأميركية منها خلط الأوراق المتعلقة بالشأن السوري.
وما بين الرغبات والأهداف الأمريكية، والمناورات والخطط التركية، ثمة الكثير من الأوراق التي سيتمّ طرحها في شمال شرق سورية، هي أوراق جلّها سياسية لكن بجزئية عسكرية تكتيكية، يُراد منها تأخير وعرقلة الزحف لسوري نحو إدلب وشرق الفرات، وبين هذا وذاك، هناك بحث أمريكي عن بلورة رؤية جديدة للمرحلة التي تلي تحرير إدلب، هي رؤية سيكون الكرد أساساً لها ومنطلقاً لتنفيذها، وبالتالي فإنّ المراهنات عن التخلي الأميركي بدعم الكرد قد لا تكون صائبة، ففي الحسابات الأمريكية تعتبر التنظيمات الكردية الحليف الوحيد لواشنطن في سورية، وعليه فإنّ تشكيل مناطق خاصة بهم سيكون هدفاً أميركياً استراتيجياً من أجل مواصلة الضغط على مقررات الحلّ السياسي في سورية، وبهذا تضمن واشنطن ورقة رابحة تزجّ بها وقتما تشاء، لقطع الطريق على التأثيرات الإقليمية للانتصار السوري، فضلاً عن أهداف أخرى تحدّدها التوجهات الروسية والإيرانية والتركية باعتبارهم ضامنين لمسار أستانا البعيد كلياً عن التوجهات الأمريكية.
لا شك في أنّ القادم من الأيام سيفرض تطورات ووقائع غاية في الأهمية، وقد لا تخلو من التفافات أمريكية تركية صاعقة، تدحرج التطورات إلى «كباش» عسكري، لا سيما أنّ هناك مؤشرات كثيرة تؤكد بأنّ واشنطن وأنقرة بصدد الدخول في مراهنات سياسة وعسكرية شمال شرق سورية، خاصة أنّ المستجدات التي فرضتها الدولة السورية وحلفاؤها، أدّت إلى تصدّع استراتيجي في ملفي إدلب وشرق الفرات، فالتحولات النوعية التي فرضها الجيش السوري في المشهد العسكري بين ريفي حماة الشمالي وإدلب لجنوبي، ستكون ناظمة لأيّ معادلات سياسية مرتقبة، هذا الأمر سيؤدّي حكماً لصوغ معادلة جديدة ذات أبعاد إستراتيجية تقصي محور أعداء سورية عن دائرة التأثير في الشأن السوري، في هذا الإطار يمكن اعتبار تحرك الدولة السورية وحلفائها باتجاه إدلب، رداً استباقياً على محاولات أميركية تركية للعبث بما هندسته الإستراتيجية السورية الروسية الإيرانية من منجزات سياسية وعسكرية خلال الأشهر المنصرمة.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا